د. عادل السريحي
في تاريخ الأمم، لم يكن الجهل يومًا عيبًا يُعاب على صاحبه بقدر ما كان امتحانًا للبيئة من حوله: هل تترفع به إلى مراتب الوعي أم تتركه يهبط بها إلى درك الانكسار؟ غير أن الجهل حين يتوشّح بسلطةٍ لا يستحقها، ويتزيّن بمقامٍ لم يُخلق له، يتحوّل من حالةٍ فردية يمكن احتمالها إلى وباءٍ جماعي يفتك بالقيم والمقاييس.
فالمصائب الكبرى لا تأتي من فراغ، بل من لحظة انكسار تُسلَّم فيها مقاليد الناس إلى من لم يعرف معنى المسؤولية، ولا أدرك قدسية الموقع. عندها يصبح المجتمع كله أسيرًا لعصا الراعي الأسود، يسيّره حيث شاء، ويكسر في النفوس ما تبقّى من توازن وعدل.
الكارثة ليست في جهل شخصٍ ما بفنون الإدارة أو آداب التعامل، فذلك أمر قد يُعذر فيه المرء إن بقي في حدود نفسه، لكن الكارثة الكبرى أن يُسلَّط على الناس من لا يعرف معنى الكلمة ولا هيبة المقام، فيصبح الراعي الأسود —الذي لم يعرف من الدنيا سوى عصاه— هو اليوم من بيده مقاليد الناس ومفاتيح مصائرهم.
أن تجلس أمام باب مكتبٍ تنتظر لقاءً رسميًا مع مسؤول، وأنت تحمل مقامًا نبيلًا أو شهادة علمية رفيعة، وتجد نفسك في مواجهة جدارٍ من الصمت واللامبالاة، فذلك ليس موقفًا عابرًا، بل صورة مكثّفة لانكسار الموازين في هذا الزمن. يخرج “المسؤول” متجهّمًا، يمر بك وكأنك لا تُرى، ثم يلقي بكلمة مقتضبة أشبه بالصفعة: “كلمت الوكيل حول مشكلتك”. عندها تشعر أنّ اللقاء لم يكن لقاءً، بل إهانة مقنّنة.
هنا يصرخ العقل: أيُّ جريمة ارتكبها المجتمع حين ارتضى أن تُدار شؤونه بعقولٍ ضيّقة لا تعرف من المقام إلا الكرسي، ولا من الإدارة إلا الأوامر الصمّاء؟ كيف يرضى الناس أن تُهان الكفاءات، ويُستبعد أهل العلم، ليُقدَّم مكانهم من لا يملك سوى ماضيه القروي وتجربته مع قطيع الغنم؟
إنها ليست حكاية فردية، بل مأساة أمة حين تضع العمامة على رأسٍ لا يعرف الفكر، وتضع القلم في يدٍ لم تعرف الورق، ثم تُطالب هذه اليد أن ترسم طريق المستقبل. عندها يصبح المستقبل ذاته قطيعًا ضائعًا، لا راعي له سوى الصدفة والجهل.















