كتب : طاهر شمسان
للاغتيالات السياسية في اليمن تاريخ طويل لا يمكن أن يحيط به مقال أو اثنان أو حتى عشرة. لذلك سنقتصر في تناولنا لهذه الظاهرة على عهد الرئيس علي عبد الله صالح الذي استطال لأكثر من ثلاثة عقود. والمعروف أن الاغتيالات السياسية نشطت في عهد هذا الرجل كما ونوعا على نحو يستوجب الانتباه، ربما كجزء من مناخ العنف والارهاب الذي وسم سنوات حكمه. فعلي صالح لم يأتِ إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع أو عبر توافق وطني من نوع ما، ولا جاء إليها عبر انقلاب أبيض أو أسود دبرته المؤسسة العسكرية وكبار قادة الجيش وإنما جاء في أعقاب اغتيال رئيسين للجمهورية العربية اليمنية هما إبراهيم الحمدي وأحمد حسين الغشمي، والثاني لم يستمر في الرئاسة سوى بضعة أشهر، والأرجح أنه هو نفسه أكل الطعم وذهب ضحية لعبة لم يكن يعلم جيداً مقاصد وأهداف لاعبيها الإقليميين والدوليين.
لم يكن علي صالح، عندما وصل إلى السلطة في يوليو 1978، صاحب تاريخ معروف أو رصيد وطني مشهود، كما لم يكن من الناحية التعليمية مؤهلا لممارسة الحكم، وكل مؤهلاته المعروفة حينها أنه عسكري من قبيلة حاشد أصبح –في عهد الرئيس الحمدي-قائدا للواء تعز بدعم من رئيس هيئة الأركان أحمد حسين الغشمي. وبعد الإجهاز الدموي على الرئيس الحمدي بقي علي صالح قائدا للواء تعز، وفي هذه الأثناء كشف –ومعه الرئيس الغشمي-عن عدائه الشديد لمن كانوا حول الرئيس الحمدي وأبرزهم قائد سلاح المظلات الرئد عبد الله عبد العالم وقائد سلاح الصواريخ الرائد مجاهد الكهالي.
ولكل الاعتبارات السابقة وصل علي صالح إلى الحكم وسط شعور عام مؤداه أن الرجل مجرد مغتصب جاء إلى السلطة عبر مؤامرة كبيرة تداخلت خيوطها محليا وإقليميا ودوليا. وفي هذا المناخ كان من الطبيعي أن يقابل مجيء علي صالح إلى السلطة باستياء كبير في أوساط اليسار بشقيه الماركسي والقومي وفي أوساط الوطنيين المستقلين، فكل هؤلاء كانوا على علم أن مخططا خارجيا جاء بعلي عبدا لله صالح إلى الحكم ليكون –بدعم من مراكز القوى وبعض شخوص الطبقة السياسية التي سبقته في الحضور الرسمي وتحقيق المكانة-منقذا لنظام 5 نوفمبر 1967 المدعوم سعوديا وهو النظام الذي أراد الرئيس الحمدي أن يطوي صفحاته السوداء بثورة خضراء اعتمدت التنمية الشاملة والسلام العام منهجا لها.
تأسيسا على ما تقدم لم يكن لعلي صالح حلفاء يمكن أن يمدوا يدهم إليه أو يمد يده إليهم سوى الاخوان المسلمين برعاية شيخ قبائل حاشد عبد الله بن حسين الأحمر الوجه الأبرز لنظام 5 نوفمبر 1967 ورجل المملكة العربية السعودية الأول في اليمن. ومن الطبيعي أن تكون السعودية هي راعية هذا التحالف الذي شكل الاخوان المسلمون، بنسختهم الوهابية المتطرفة وأيديولوجيتهم التكفيرية المكشوفة، جبهته الأيديولوجية. وقد اشتغل الاخوان المسلمون علنا وبحرية تامة على خمسة قطاعات هي: قطاع التعليم بمختلف مراحله، وقطاع الأوقاف والإرشاد الديني والخطابة اليومية في المساجد، وقطاع المرأة، وقطاع الجمعيات الخيرية الممولة سعوديا وخليجيا، ثم قطاع الحرب الأيديولوجية ضد اليساريين والقوميين والمستقلين من ذوي الاتجاهات الوطنية. ومن خلال هذا الاشتغال كان الاخوان المسلمون عمليا ملتحمين بنظام علي صالح وكانوا واجهته الأيديولوجية ضد معارضيه. ولهذا اتخذ الإرهاب السياسي شكل الإرهاب الديني القائم على تكفير معارضي النظام والافتاء بجواز قتلهم. وليس من قبيل المبالغة القول إن للتكفير في يمن علي صالح تاريخا ملحوظا مازال ممتدا في الحاضر ويستحق الاهتمام والدراسة لبيان مخاطره، لكنا في هذه المقالة سنكتفي بذكر بعض ضحايا التكفير لأسباب باطنها السياسة وظاهرها الدين وما مثله ذلك من خطر على حياتهم مازالت آثاره إلى اليوم.
كان تحالف علي صالح والإخوان المسلمين تحالفا مصلحيا قام على مبدأ غير معلن هو عدم القبول بفكرة الدولة الوطنية القائمة على سيادة القانون ورفض التبعية للخارج. وبينما ذهب علي صالح يراكم شروط تحوله التدريجي إلى حاكم بأمره ترك الحبل على الغارب للإخوان المسلمين ليعبثوا كيفما طاب لهم ما داموا لا يهددون ولي الأمر ولا يعترضون على نهجه في تقريب أهل الثقة واستبعاد أهل الكفاءة فضلا عن الإخفاء القسري لعشرات المعارضين الذين ما يزال مصيرهم مجهولا إلى اليوم. ولذلك عاش الإخوان المسلمون في اليمن شهر عسل طويل كانوا خلاله أصحاب الصوت الذي يعلو ولا يعلى عليه وامتد نفوذهم إلى جهاز الأمن السياسي سيء السمعة الأمر الذي مكنهم من ملاحقة خصومهم الأيديولوجيين وزجهم في المعتقلات وتعريضهم لكل صنوف التعذيب. وبالتوازي مع ذلك اتسمت الحياة السياسية والثقافية بالإرهاب الفكري من خلال خطابات التكفير التي أباحت دماء الخصوم وملأت قلوب الناس خوفا ورعبا وطالت العشرات نذكر منهم على سبيل المثال أستاذ علم الاجتماع بجامعة صنعاء الدكتور حمود العودي الذي غادر البلاد هربا من شبح الموت ولم يعد إليها إلا بعد إعلان الوحدة اليمنية في العام 1990، ورئيس جامعة صنعاء حينها الشاعر والأديب الكبير عبد العزيز المقالح، والشاعر عبد الكريم الرازحي، والكاتب علي عبد الفتاح المسني، والشاعر أمين عبد الله الشميري، والمهندس محمد عبد الوهاب القاضي، والمهندس محمد حمود الحمادي، وهذا الأخير أعتقل لنحو أربع سنوات في دار البشائر وسجن القلعة كاد خلالها أن يموت من شدة التعذيب وعندما أطلق سراحه عاش حالة خوف دائم اضطر معه للهجرة والعمل خارج اليمن.
وفي 22 مايو 1990 أعلنت الوحدة بين شطري اليمن ونص إعلانها على الجمع بينها وبين الديمقراطية فتنفس الناس الصعداء معتقدين أن مناخ التكفير سيتوارى أمام هذا الحدث الوطني العظيم الذي طال انتظاره، لكن الذي حصل أن الإخوان المسلمين –بتفاهم غير معلن مع علي صالح-رموا بكل ثقلهم لتكفير الدستور الذي قامت عليه دولة الوحدة اليمنية ومعه كفَّروا الشريك الجنوبي في اتفاقية الوحدة ممثلا بالحزب الاشتراكي اليمني، وتحولت مساجد اليمن وميادينها إلى ساحات لخطابات التكفير التي تصدرها فقهاء الإخوان المسلمين بعد أن أعلنوا أنفسهم –بالتفاهم والتنسيق مع علي صالح- حزبا سياسيا معارضا للحزب الاشتراكي اليمني ولدستور دولة الوحدة بخطاب ديني أساسه ولبه التكفير وإباحة دماء الخصوم.
اتسمت الفترة الانتقالية التي أعقبت إعلان قيام الوحدة بين الجمهورية العربية اليمنية وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية بقدر ملحوظ من الحرية السياسية غير أن الإخوان المسلمين استثمروا هذه الأجواء لمزيد من التصعيد الأيديولوجي ضد دستور دولة الوحدة وضد الحزب الاشتراكي اليمني واستطاعوا بهذا النهج أن يربكوا الرأي العام وأن يحولوا أفراح الوحدة إلى أتراح حيث بدأ مسلسل الاغتيالات ضد كوادر الحزب الاشتراكي اليمني داخل عاصمة دولة الوحدة وذهب ضحيته أكثر من مئة وخمسين كادرا. وعوضا عن إدانة حوادث الاغتيال وإلقاء القبض على الجناة كان إعلام الإخوان المسلمين ومعه الإعلام التابع لحليفهم الرئيس علي صالح يقول للناس إن الاشتراكيين يقتلون الاشتراكيين. وحينها بدا واضحا أن إعلان الوحدة لم يكن سوى فخ كبير لمضاعفة مساحة الجمهورية العربية اليمنية بتحويل جنوب اليمن من شريك في الوحدة بإرادته إلى ملحق بدولة الشمال بغير إرادته. غير أن مخطط الإلحاق لم يكن ممكنا بغير حرب جرى الاستعداد لها منذ وقت مبكر بتنسيق محكم بين الإخوان المسلمين وحليفهم الرئيس صالح. وكان الإخوان أكثر حماسا للحرب من علي صالح، ومن أجلها استقدموا إلى اليمن أكثر من عشرين ألفا من الأفغان العرب. وبعد انتخابات أبريل 1993 استثمر تحالف صالح والإخوان المسلمين الأغلبية العددية الشمالية في البرلمان لإعلان الحرب وغزو الجنوب وأخذه عنوة بالقوة وتشريد شركاء الوحدة خارج البلاد. ومنذ ذلك الوقت دخلت اليمن في نفق مظلم لم تخرج منه ولا يبدو على المدى المنظور أنها ستخرج ما لم يعترف الإخوان المسلمون بأخطائهم وخطاياهم ويثبتوا أنهم تغيروا. والحقيقة أن شيئا من هذا لم يحدث بعد حتى الآن، فنهج الإخوان المسلمين لم يتغير إلا من الناحية الشكلية منذ أن تخلى عنهم علي صالح وأعلن أنهم لم يكونوا سوى كرت استخدمه ورماه. أما كيف أن نهج الإخوان لم يتغير، ولماذا لم يتغير رغم المخاطر المحدقة بهم وتعرض كثير من كوادرهم للاغتيال فهذا ما سنتناوله في مقال قادم.