كريتر نت – متابعات
في ضوء المحادثات الأخيرة بين وزيري الخارجية والدفاع في الولايات المتحدة والصين، تبدو العلاقة بين القوتين العالميتين وكأنها تسير على حبل مشدود بين الانفراج الحذر والتوتر البنيوي.
ورغم أن هذه الاتصالات تشكّل خطوة رمزية نحو إعادة بناء الثقة، إلا أنها لم تخرج بعد عن إطار إدارة الأزمة بدلا من حلها.
ويرى محللون بأن المحادثات المتتالية بين وزيري خارجية ودفاع الولايات المتحدة والصين قد تمثّل “خطوة صغيرة” باتّجاه ترتيب اجتماع بين رئيسي البلدين، لكنهم يستبعدون أي قمّة وشيكة.
وكان العام 2019 آخر مرة اجتمع الرئيسان الأميركي دونالد ترامب والصيني شي جينبينغ، وبالتالي ستتركّز الأنظار على أي مباحثات تتطرق إلى ملفات ساخنة مثل تايوان وبحر الصين الجنوبي والرسوم الجمركية الأميركية.
وتوترت العلاقات بين أكبر قوتين اقتصاديتين هذا العام عندما تبادل البلدان فرض رسوم جمركية باهظة على الصادرات.
وتحدّث ترامب وشي هاتفيا آخر مرة في يونيو. وأفاد الرئيس الأميركي في أغسطس بأنه يتوقع بأن يزور الصين هذا العام أو بعده بقليل، مشيرا إلى تحسّن العلاقات الاقتصادية بين البلدين.
وبينما لم يعلّق شي علنا على زيارة محتملة لترامب، عززت محادثات الأربعاء بين وزيري دفاع وخارجية البلدين الآمال بشأن إمكانية انعقاد اجتماع مباشر بين الرئيسين.
وأكد وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو لنظيره الصيني وانغ يي في اتصال هاتفي الأربعاء رغبته في إجراء حوار بنّاء ومنفتح مع الصين.
ووصف وانغ الاتصال مع روبيو بـ”المثمر” لكنه حذّر من أن “التصريحات والتصرّفات السلبية الأخيرة الصادرة عن الجانب الأميركي قوّضت حقوق الصين ومصالحها المشروعة،” وذلك بحسب بيان للخارجية الصينية.
وقال الأستاذ المساعد في جامعة نانيانغ للتكنولوجيا في سنغافورة ديلان لوه إن الاتصال هو “استمرار لمحادثات سابقة ومبادرات من الزعيمين والمفاوضات بشأن الاتفاق التجاري.”
وأضاف لوه: “إنها بالنسبة إلي، خطوة إيجابية صغيرة لكن هناك العديد من الخطوات الإضافية التي ينبغي القيام بها.”
ضبابية
حذّر وزير الدفاع الصيني دونغ جون في اتصال منفصل عبر الفيديو في اليوم ذاته نظيره الأميركي بيت هيغسيث من أن محاولات “إخضاع أو ردع أو التدخل في الصين ستكون غير مجدية،” بحسب ما نقلت عنه شبكة البث الرسمية “سي سي تي في.”
وقال أستاذ العلوم السياسية في جامعة سنغافورة الوطنية تشونغ جا إيان إن المحادثتين يمكن أن “تمهّدا الطريق لاجتماع بين ترامب وشي.. لكن أيا من ذلك غير واضح في هذه المرحلة.”
وحذّر من أن “الرئيس (ترامب) معروف باتّخاذه القرارات وتغييرها سريعا، لذا قد يكون من المبكر توقع انعقاد اجتماع وشيك بين الزعيمين.”
وجاءت الاتصالات بعد أيام على إشراف شي على عرض عسكري ضخم لإحياء ذكرى انتهاء الحرب العالمية الثانية شارك فيه قادة بينهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وزعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون.
واتّهم ترامب القادة الثلاثة بالتآمر على الولايات المتحدة.
ومن المستبعد أن يؤكد شي موعد وإمكانية عقد اجتماع مع ترامب قبل التوصل إلى “قائمة متفق عليها ومعدّة سلفا بالمسائل التي سيجري بحثها” مع نظيره الأميركي، بحسب ما أفاد الأستاذ وخبير شرق آسيا في جامعة سوكا اليابانية ليم تاي وي.
وأفاد ليم بأن “نظام الصين السياسي الفريد لا يسمح بأن تطرأ أي مفاجآت خلال أي قمة مع ترامب.”
وأكد لوه من جامعة نانيانغ للتكنولوجيا وجود احتمال دائم بأن يجتمع الرئيسان أثناء قمة منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ المقررة بين أواخر أكتوبر ومطلع نوفمبر والتي ستقام في مدينة غيونغجو الكورية الجنوبية.
وأضاف “لكن نظرا إلى التغيّرات السريعة الداخلية والخارجية، لا يمكن الحسم بذلك.”
وتشكل العلاقات الأميركية – الصينية واحدة من أكثر ملفات السياسة الدولية تعقيدًا وتشابكًا، إذ تتداخل فيها الأبعاد الاقتصادية والجيوسياسية والأيديولوجية.
فمنذ الحرب التجارية التي اندلعت في عهد ترامب عام 2018، ساد التوتر جوهر العلاقة بين الطرفين، وأصبح التواصل الدبلوماسي رهن الأزمات والتوازنات الإقليمية والدولية.
ورغم محاولات واشنطن وبكين المتكررة للعودة إلى مسار الحوار، فإن الحذر يبقى السمة الأبرز، خاصة أن كلا البلدين يستخدم أدوات القوة الناعمة والضغط الاقتصادي بشكل متوازٍ مع التصعيد السياسي.
فالولايات المتحدة ترى في الصين منافسًا إستراتيجيًا طويل الأمد، فيما تعتبر بكين أن واشنطن تسعى إلى تطويقها سياسيًا واقتصاديًا، خصوصًا عبر تحالفات في شرق آسيا، مثل تحالف إكواس الرباعي، والدعم الأميركي لتايوان.
تفاؤل حذر
من جهة أخرى، لا يمكن إغفال الخلفية الأيديولوجية في العلاقة بين البلدين؛ إذ تُبرز الصين نموذجها التنموي السلطوي في مواجهة الليبرالية الغربية، وتسعى إلى تعزيز نفوذها العالمي من خلال مشاريع مثل “الحزام والطريق”، بينما تراقب واشنطن بقلق تمدد النفوذ الصيني في مناطق تقليديًا تابعة لنفوذها، خصوصًا في أفريقيا وأميركا اللاتينية.
وتاريخيًا، غالبًا ما كانت القمم الرئاسية بين الصين والولايات المتحدة مشروطة بإعداد دقيق ومسبق، سواء من حيث الملفات التي ستُناقش أو النتائج المتوقعة، وذلك لاعتبارات تتعلق بثقافة صنع القرار في بكين، التي ترفض المفاجآت أو التصريحات المرتجلة.
ولذلك، فإن الحديث عن قمة بين ترامب وشي، مهما بدا ممكنًا من حيث الشكل، يظل محاطًا بشكوك كبيرة من حيث التوقيت والمضمون، خاصة أن شخصية ترامب تتسم بعدم القدرة على التنبؤ، وهو ما يقلق دوائر صنع القرار الصينية المعروفة بانضباطها المؤسسي.
كما أن التحولات الإقليمية، لاسيما في المحيط الهادئ، تلعب دورًا في تحديد إيقاع العلاقة. فتصاعد النزاعات البحرية في بحر الصين الجنوبي، وسباق التسلح التقني في مجالات الذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات، يضيف طبقات جديدة من التعقيد على أي محاولة لتطبيع العلاقات أو التمهيد لقمة رئاسية.
واللافت أيضا أن إدارة ترامب، رغم عدائها المعلن للصين في ملفات متعددة، تسعى إلى إبقاء خطوط التواصل مفتوحة، وهو ما يُظهر إدراكًا متأخرًا لأهمية الحفاظ على الحد الأدنى من الاستقرار في العلاقة الثنائية، خاصة مع اقتراب استحقاقات سياسية داخلية في واشنطن قد تتطلب مواقف أكثر مرونة تجاه بكين.
وبينما تسعى واشنطن للحفاظ على قنوات الحوار مفتوحة، تبدو بكين حريصة على تفادي الوقوع في فخ التصعيد، دون التنازل عن ثوابتها السيادية.
وهكذا، تبقى العلاقات الأميركية – الصينية محكومة بمنطق “الإدارة لا الحل”، في انتظار ظرف دولي أو متغير سياسي يسمح بإعادة صياغة العلاقة على أسس أكثر استقرارا ووضوحا.















