وليد صالح عياش
رئيس مؤسسة نداء للتعايش والبناء
جاءت هذه المقالة في سياق ما أثارته بعض التعليقات على البودكاست الذي أجراه معي الإعلامي الرائع بشير الحارثي، إذ ظهر في بعضها تخوّف مما سُمّي بخطر انتشار معتقد جديد على النسيج الاجتماعي.
والحقيقة أن هذا التصوّر يفتقر إلى قراءة موضوعية للتاريخ وللسنن الإلهية.
فمتى كان انتشار معتقد جديد خطرًا على المجتمع؟ إنما الخطر الحقيقي يكمن في رفض التنوع وإقصاء الآخر.
على مدى التاريخ، كانت سنة الله الماضية هي إرسال رسالات جديدة تُبدّل المفاهيم وتنهض بالمجتمعات، بينما كان ديدن الطغاة والفراعنة هو الخوف من هذا التغيير.
وقد صوّر القرآن هذا الموقف بدقة حين قال تعالى:
﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ﴾ (غافر: 26).
ولذلك، أجد من المهم أن أفنّد هذا الوهم عبر جملة من المسارات والدلائل التي يكشف كل واحد منها جانبًا من الحقيقة المغيّبة.
أولًا: سنة الاختلاف في القرآن
القرآن الكريم لم يجعل الاختلاف قدرًا عابرًا، بل أصّله كقانون من قوانين الاجتماع البشري، فقال تعالى:
﴿ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم﴾ (هود: 118-119).
فالاختلاف ليس طارئًا، بل هو مقصود لذاته، وميدان لاختبار إرادة الإنسان في التسامح أو التعصب، في العدل أو الظلم.
ثانيًا: النسيج الاجتماعي ليس هشًا بل حيًّا
يظن البعض أن النسيج الاجتماعي هشّ، وأنه يتمزق بمجرد أن يبرز فيه تنوع المعتقدات الدينية أو فكرية.
لكن الحقيقة أن المجتمعات الحية قادرة على استيعاب التنوع، بل تزداد ثراءً به.
فاليمن ذاته كان موطنًا لليهود والمسيحيين والمسلمين عبر قرون، وتجاورت فيه المذاهب والقبائل المختلفة.
ولو كان التنوع سببًا للانهيار لما بقيت حضارات البشر إلى اليوم.
ثالثًا: التهديد الحقيقي للنسيج الاجتماعي
الذي يمزق النسيج الاجتماعي ليس المعتقد الجديد ولا المعتقد المختلف، بل التعصب واحتكار الحقيقة، ورفض الآخر، وتسييس الهوية الدينية لخدمة مشاريع ضيقة.
حين يتحول الدين إلى أداة إقصاء، تُزرع بذور الفتنة.
أما حين يُفهم كطريق روحي بين طرق متعددة لله، يتحول إلى رافد للتعددية والتعايش.
رابعًا: البعد الاجتماعي والسياسي
إن الخوف من “المآلات” السياسية والاجتماعية لانتشار معتقدات جديدة ليس مبررًا منطقيًا لقمع حرية الاعتقاد.
فالأنظمة السياسية العاقلة لا تقوم على محاربة قناعات الناس الداخلية، بل على إدارة التنوع بحكمة وتشريع يضمن حقوق الجميع.
الدول الحديثة لم تنهض بالقهر، بل بوضع عقد اجتماعي يساوي بين المواطنين بغض النظر عن معتقداتهم.
خامسًا: رسالة الأديان عبر التاريخ
كل رسالة إلهية جاءت لتواجه مفاهيم سائدة وتغير قناعات مستقرة، فواجهت مقاومة واتهامات بالتمزيق.
ومع ذلك، أسهمت هذه الرسالات في تطوير الحضارات البشرية، من موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام .
سادسًا: نحو وعي جديد
ما يحتاجه اليمن اليوم ليس الخوف من تنوع المعتقدات، بل الخوف من جمود العقول واحتكار الحقيقة.
إن بناء وطن يتسع للجميع يمر عبر الإقرار بأن الحرية الدينية ليست خطرًا على النسيج الاجتماعي، بل هي صمام أمان ضد العنف والكراهية.
وحدها المجتمعات التي تقبل الاختلاف تستطيع أن تحوّل تنوعها إلى طاقة إبداعية وبناء مشترك.
خاتمة
انتشار معتقد جديد أو بروز معتقد مختلف لا يمزق المجتمع، بل يختبر مدى نضج هذا المجتمع وقدرته على التعايش. النسيج الاجتماعي يتمزق حين نزرع فيه الخوف والكراهية، ويقوى حين ننسجه بخيوط الحرية والعدالة والاحترام المتبادل. وكلمة الله الخالدة تؤكد ذلك:
﴿لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي﴾ (البقرة: 256).