محمد زكاري
كاتب مغربي
لا تقوم المواطنة حتى تكون الحرّية أرضاً وأساساً لها، وهذه الحرّية ليست متولِّدةً عن تعاقُد بموجبه تمنح سلطةٌ عليا الإنسان الحقّ في أن يكون حرًّا؛ لأنّ وجودها سابق لوجود الإنسان، ومن هذا المنطلق يكون وجودنا محكوماً بالحرّية في صورتها المطلقة.
يترتب على هذا الشعور بالحرّية لدى الإنسان شعور بأنّه مسؤول أمام ذاته وأمام الوجود، لا بالمعنى الذي يصير فيه وجوده وذاته أصلاً لكل المبادئ والقوانين التي يمكن أن تنبثق من هذا الأصل. وما دام التفكير في الحرّية أمراً ضرورياً ولا نقاش فيه، فإنّ التفكير في المواطنة بما هي خصيصة الإنسان الذي ينتمي إلى الدولة، فإنّه لا يتخلَّى بأيّ شكل من الأشكال ولا تحت أيّ طائلة عن هذا الحقّ في أن يكون حرًّا، بل إنّ وجود الدولة، في حدّ ذاته، ليس سوى استجابة لهذا المطلب الأساس الذي يُبقي على حرّية الأفراد ويضمن أمنهم وسلامتهم.
قياساً على ما تقدَّم وفي علاقة الحرّية بالمواطنة يمكن القول إنّ ثمّة فارقاً جوهرياً في إدراك وظيفة الدولة وغاياتها، إذا ما تعلَّق الأمر بتجربتنا العربية والإسلامية على العموم، وذلك بدءاً من النقاشات التي دارت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين، التي لم تنصبّ على الدفاع عن الحرّية بقدر ما كانت تتغيّا البحث في سبل مقاومة الاستبداد، وقياس واقع عربيّ مغلق ومتخلّف على واقع أوروبيّ متقدّم ومتحرّر.
لم تكن تلك المماثلات والتشبيهات لتفلح؛ لأنّ درساً بسيطاً في علم الاجتماع التاريخي يُظهر أنّ أسباب نهضة المجتمعات تختلف وتتباين، وأنّ البنى المادّية لا تحمل، بالضرورة، معانيها في ذاتها، بل إنّ النهضة الحقيقية هي تلك التي يكون فيها الوعي في أوجه، وتكون فيها الكلمة الفصل لصوت العقل، ولا يقول العقل كلمته في ظل الرقابة والاستبداد، بل إنّ كلامه يظلّ مؤجَّلاً إلى حين.
لعلّ قوام الحرّية، إذن، على العقلانية، ومتى تحقّقت في مجتمع من المجتمعات أمكن الحديث عن مواطنة حقّة، يكون بموجبها كلُّ شخص قادراً على احترام قيم ومبادئ مجتمعه وقيم الإنسانية جمعاء من دون تمييز أو فصل. وبالتبعة من ذلك تتحدَّد المواطنة كشكل من أشكال المسؤولية الأخلاقية والقانونية التي ترسم نطاقَ الحرّية المدنية، فالإقرار بأننا أحرار فقط لأننا وجدنا إقرار لا يستقيم إلا بوجود آخرين لهم الحقُّ عينه في الوجود الحرّ، وبالتالي فإنّ المواطنة هي الصورة الأمثل التي يتحدَّد وفقها وجودنا الحرّ من خلال توافقاتنا الخاصة الأخلاقية والقانونية، التي تحفظ استمراريتنا، والتي تجعل من الدولة وسيلةً من أجل استمرارية الحياة الفردية.
في هذا التحديد بالضبط يكمن الخطر، والسبب الذي من ورائه يكون الدفاع عن الحرّية كما لو أنّه خطر محدِق بالسُّلطة، والحقُّ أنّ مسار البشرية عموماً، والمسار الاجتماعي منها على وجه التحديد، هو مسار من أجل الانعتاق، ومسار تحرُّر من كل أشكال القهر والتسلُّط.
ليس الرهان على الحرّية رهاناً اسميًّا، بمعنى أنَّه لا تقوم الحرّية فقط لمجرَّد أنّنا نحسن تحديدها، ولا لأننا نتغنّى بها، بل إنّ حقيقتها نابعة من وجودها التاريخي الذي يدفع البشر ـ دائماً وأبداً ـ إلى تجاوز إمكانياتهم ومحدوديتهم، والانفتاح على ذاتيتهم التي لم تتحقَّق بعد، إنّ الحرّية بالنسبة إلى كلّ واحد منَّا هي ذاته التي يسعى إليها، بوصفها ذاتاً مستقبليَّةً، وكلُّ ما بإمكانه أن يعيق هذا المسار الذي يرسمه الوعي سيؤول إلى الزوال والاندثار، حتى وإنْ كانت الدولة نفسها. والحقُّ أننا نميِّز في هذا الأمر بين الدولة بوصفها آليّة من أجل استمرارية الاجتماع البشري، وبين الدولة بوصفها غاية في ذاتها أو إلهاً خالداً جاثماً على صدور الأفراد.
إنّ الدولة بمعناها الأوّل تمثيلٌ لإرادة البشر في الاستمرار والوجود، وتجسيدٌ لوعيهم، وهي عكسُ ذلك في النطاق الثاني إنَّها تتعالى بنفسها عن صيرورة الزمان، وكلُّ ما يتعالى عن تلك الصيرورة، أو يدَّعي ذلك، فإنّه يهدِّدُ الوجود الحرَّ الذي يتميّز به الإنسان.
لا تتحقّق الحرّية، والمواطنة، بمجرَّد وصف الاستبداد أو بوصف هذا المجال المطلق الذي تهيمن من خلاله الدولة على مجال الفرد، ولكنّها تتحقَّق من خلال الممارسة الفعلية والنشاط الجادّ الذي يجعل فعل التحرُّر ممكناً، بوساطة التربية على قيم التحرُّر، بدلاً من قيم الخضوع، والتفكير في أنّ للإنسان قيمةً مطلقةً تتجاوز كلَّ إمكانية للتسعير، وهذا التصوُّر ـ وإن تجلّى نشازاً في واقعناـ إلا أنّه المفتاح الذي يمكِّننا من ولوج طور الحرّية والدفاع عن قيم المواطنة في أسمى معانيها وتمظهراتها.
ومن جهة أخرى لا بدّ أن يكون لدينا نوع من الوعي بالأثر الذي يمارسه الموروث ـ سواءً كان تاريخيّاً قديماً أو من إرث الأمس القريب ـ الذي يتجلَّى كعائق أمام التحرُّر، ولا سبيل إلى القطع معه ولا إلى مجاوزته من دون تفكيكه وتحرير أنفسنا منه.
يمكن القول، بناءً على ما تقدَّم معنا، إنّ مسار المواطنة ومسار الحرّية ليسا مسارين منفصلين، وإنّما هما مساران متصلان، كما أنّ الغاية من وجود الدولة يتمثَّل في جعل الأفراد قادرين على ممارسة حرياتهم لا النيل منها، وبالتالي فلا تقوم المواطنة إلا بالحرّية، والدفاع عن وجود الدولة هو دفاع عن حرّية الأفراد، وحقِّهم في ممارسة تلك الحرّية.
يضافُ إلى ذلك أنّه ما من حرّية إلا وهيَ بالنسبة إلى كلّ مواطن التجلّي المطلق لقدرته على إعمال وعيه، والشعور بأنّ إنِّيته لا تكتمل إلا بإدراك الغيرية، وإدراك أنّ وجود الأنا والآخر إنَّما هو وجود يتحدَّدُ بناءً على مسؤولية مشتركة، تكون بموجبها كلُّ ذاتٍ مسؤولة عن الذَّوات الأخرى. إنّنا واعون وأحرار ومواطنون متى كان هذا الوعيُ متحقِّقاً بوصفه أقصى ما يمكن أن تقدر عليه ذاتيتنا.
نقلا عن حفريات