كريتر نت – متابعات
في ظل التحولات المتسارعة في معادلات الأمن الإقليمي، تبرز البحرين اليوم كلاعب محوري يعيد تعريف دوره التقليدي من موقع إستراتيجي إلى منصة تنسيق كبرى بين القوى الغربية والعربية.
ومنذ عقود احتفظت البحرين بدور محوري في الترتيبات الأمنية الإقليمية عبر احتضانها قيادة الأسطول الخامس الأميركي، لكنها اليوم تنتقل إلى دور أكثر تأثيرا، مع تحوّلها إلى منصة لتشكيل التوازنات الإقليمية الجديدة في الشرق الأوسط.
ويتجلى هذا التحوّل بوضوح في قيادتها، إلى جانب الولايات المتحدة، اتفاقية الاندماج الأمني الشامل والازدهار، والتي لا تُعد فقط خطوة لتعزيز التعاون الدفاعي، بل تعتبر أيضا نموذجا سياسيا وإستراتيجيا لتكامل أمني متعدد الأطراف يأخذ في الاعتبار التحديات الأمنية والاقتصادية والتكنولوجية في المنطقة. ومثّل انضمام المملكة المتحدة رسميا إلى الاتفاقية في يونيو 2025، بعد أن طُرحت الفكرة لأول مرة في كواليس حوار المنامة، أول توسّع نوعي للاتفاقية خارج مؤسسيها الأصليين.
ويضفي وجود بريطانيا، بقواعدها الدائمة في البحرين وشراكتها الدفاعية التاريخية مع واشنطن والمنامة، على الاتفاقية ثقلا سياسيا ومؤسساتيا يعزز مصداقيتها وقدرتها على الردع. كما أن انخراط دولة أطلسية كبرى يمنح الاتفاقية بعدا إستراتيجيا جديدا، ما يجعل البلاد منصة واعدة لتوسيع الشراكات مستقبلاً، ويهيئها للتحول إلى مظلة أوسع للأمن الإقليمي، خصوصا في ظل التوترات المتصاعدة بين إيران وإسرائيل، والتهديدات المتكررة للملاحة في البحر الأحمر.
ووضعت الاتفاقية، التي وقّعت أساسا بين البحرين والولايات المتحدة قبل فترة وجيزة من هجوم حماس في أكتوبر 2023، أساسا قانونيا جديدا لعلاقة دفاعية متبادلة، وُصفت بأنها الأقوى من نوعها خارج إطار حلف شمال الأطلسي (الناتو)، فيما عُرفت بـ”المادة 4.5.”
وقد أوفت البحرين بجميع التزاماتها ضمن هذه الاتفاقية، فشاركت بفاعلية في العمليات التي قادتها الولايات المتحدة ردًا على هجمات الحوثيين، وواصلت شراء المعدات العسكرية الأميركية، وبدأت في مواءمة بنيتها التقنية مع المعايير الأميركية، في خطوات تؤكد جاهزيتها للعب دور أمني متقدم. ومع تصاعد التهديد الإيراني في المنطقة، أثبتت البحرين أنها ليست فقط قاعدة خلفية للقوات الأميركية، بل شريك إستراتيجي فاعل. فقد نسّقت بشكل مسبق مع واشنطن قبل الضربة التي استهدفت المنشآت الإيرانية في يونيو، وجهزت بنيتها التحتية لمواجهة أي تصعيد محتمل.
وترى الباحثة كاسيدي ماكجولدريك في تقرير نشره المجلس الأطلسي أن هذا النوع من التنسيق العملي يعكس كيفية تحوّل المنامة من مجرد موقع جغرافي إلى مركز قرار في صياغة منظومة الأمن الإقليمي. وإضافة إلى الجانب الأمني برزت أبعاد اقتصادية وتقنية للاتفاقية، تمثلت في استثمارات ضخمة مع الولايات المتحدة تتجاوز 17 مليار دولار، شملت شراكات في مجالات التكنولوجيا والطاقة والتصنيع، إلى جانب توقيع مذكرة تفاهم للتعاون النووي السلمي، ما يوسّع طموحات الاتفاقية إلى ما هو أبعد من المعادلات العسكرية التقليدية.
وفي هذا السياق يبرز هدف الولايات المتحدة والبحرين المتمثل في توسيع الاتفاقية لتشمل دولا عربية أخرى، وعلى رأسها مصر والأردن ودول مجلس التعاون الخليجي. ويمثل الأردن ومصر، بحكم علاقاتهما الطويلة مع الولايات المتحدة واتفاقات السلام مع إسرائيل، مرشحين طبيعيين للانضمام. وأعرب العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني صراحة عن تأييده لفكرة “ناتو شرق أوسطي”، ما يعزز توافقه مع فلسفة الاتفاقية.
أما مصر، بموقعها الإستراتيجي ودورها المحوري في قضايا الأمن الإقليمي، فتُعد إضافة بالغة الأهمية لتعزيز قدرة الاتفاقية على مواجهة التحديات العابرة للحدود، خصوصا في مجالات مكافحة الإرهاب، وأمن الممرات البحرية، والتنسيق الاستخباراتي. وتبدو دول الخليج الأخرى، مثل الإمارات والكويت وقطر، أيضا ضمن الحسابات المستقبلية، لاسيما أنها تستضيف قواعد أميركية وتربطها علاقات أمنية وتقنية متقدمة بواشنطن. وتبرز الإمارات كمرشح قوي بفضل مكانتها التكنولوجية، ما يجعلها حلقة وصل بين البعدين الأمني والاقتصادي للتعاون الإقليمي.
وفيما يُعد انضمام إسرائيل إلى الاتفاقية خيارا إستراتيجيا بعيد المدى، فإن التركيز في المرحلة الحالية ينصبّ على إشراك الدول العربية لبناء قاعدة إقليمية صلبة قبل أي توسع نحو الشراكة الإسرائيلية. ويعطي هذا التدرج للاتفاقية شرعية أكبر في السياق العربي، ويجنّبها الرفض السياسي المبكر، مع الحفاظ على إمكانية التطور إلى مظلة أكثر شمولا في المستقبل.
ومن خلال هذه الديناميكية تبدو البحرين في موقع غير مسبوق في تاريخها الدبلوماسي والعسكري. فبدلاً من أن تكون مجرد قاعدة للتموضع الأميركي، أصبحت اليوم منصة فاعلة لتشكيل التوازنات الإقليمية الجديدة، عبر اتفاقية الاندماج الأمني الشامل والازدهار التي تمثل رهانا على بناء منظومة أمنية واقتصادية متكاملة، قادرة على الصمود أمام التحولات الجيوسياسية وتسريع وتيرة التكامل العربي الأطلسي في لحظة مفصلية من تاريخ المنطقة.
ومنذ توقيع اتفاق التعاون الدفاعي بين البحرين والولايات المتحدة عام 1991، دخلت المملكة الخليجية في شراكة أمنية راسخة أتاحت للولايات المتحدة استخدام قواعدها العسكرية وتخزين المعدات، وأهمها قاعدة “السطرة البحرية” التي تستضيف الأسطول الخامس الأميركي، إحدى أبرز أذرع القوة البحرية الأميركية في الشرق الأوسط. لكن مع تحولات البيئة الإقليمية، وتزايد التهديدات العابرة للحدود، تحوّل الدور البحريني تدريجيًا من مجرد مستضيف لقوة أجنبية إلى طرف فاعل في رسم معادلات الأمن البحري في المنطقة.
ومن خلال توسيع دورها في المبادرات متعددة الأطراف، كاتفاقية الاندماج الأمني الشامل والازدهار، برزت البحرين كلاعب يعيد تعريف موقعه عبر طرح نماذج تنسيقية جديدة بين الشركاء الغربيين والعرب، تهدف إلى بناء منظومة أمن جماعي تتجاوز الردع التقليدي إلى دمج القدرات السيبرانية والتقنية والاقتصادية.
ولم يكن هذا الانتقال نتيجة ظرف طارئ، بل هو ثمرة تراكم سياسي وأمني بدأ منذ تسعينات القرن الماضي، وبلغ ذروته بعد أحداث 11 سبتمبر وما تلاها من حروب في أفغانستان والعراق، حيث أضحت البحرين مركزا لعمليات الدعم اللوجستي والاستخباراتي الأميركي.
وفي السنوات الأخيرة ازدادت أهمية البحرين مع اتساع نطاق التهديدات في الخليج، من الهجمات الحوثية على الملاحة الدولية في البحر الأحمر إلى التوترات المتكررة مع إيران، ما عزز قيمتها كحلقة وصل حيوية في شبكة الردع الغربية. كما أن حضورها السياسي والدبلوماسي في قمم إقليمية ودولية، ومنها “منتدى النقب” و”اتفاقيات أبراهام”، جعل منها ممرا للسياسات الأمنية الجماعية التي ترعاها واشنطن.
وفي هذا السياق لم تعد المنامة مجرد قاعدة خلفية للأسطول الخامس، بل أصبحت مركزًا لصياغة التوازنات الإقليمية، وورشةً نشطة لتجريب نماذج التعاون الأمني الجديد الذي يجمع بين الردع الصلب والتكامل التقني والاقتصادي، كما في شراكتها مع شركات التكنولوجيا الأميركية العملاقة، وشراء المنظومات الدفاعية المتقدمة، والتحول نحو بنية تحتية عسكرية تتوافق مع معايير الناتو. ويعكس هذا التدرج في الأداء الأمني والسياسي تحوّل البحرين إلى ما يشبه “العقدة النشطة” في شبكة الأمن الإقليمي.















