نزهة بوعزة
باحثة مغربية
تشكّل إسرائيل كيانًا يدمج بشكل لافت بين الدولة المدنية والدينية، هذا الإدماج الذي يبدو للوهلة الأولى، أو كما كنا نعتقد لعقود بأنّه إدماج، لا يستجيب لمفهوم العلمانية في بُعدها الحداثي خصوصًا الأوروبي، تبين أنّه يشكّل هوية غربية تعيش على ازدواجية ظاهرية وباطنية، شكّل الكيان مناسبة لتحقق اتحادهما في نموذج دولة دينية -مدنية.
والمتمعن في التاريخ اليهودي منذ بداية القرن الثامن يلاحظ بوادر هذا التشكل الذي يضعف كفة المدني في كنف الديني، وهو ما ترجم بإنشاء الدولة الإسرائيلية في عمق الأراضي العربية 1948، ومنذ ذلك الحين وصوت الكيان لا يتعامل بمنطق الدولة المستقلة التي تبلورت وفق سردية دينية وقوة كولونيالية، بل بمنطق إلزام صريح بضرورة تبنّي الدولة اليهودية إلى حين تحقق سرديتها، ففي تحققها تتحقق سردية مسيحية موازية لها ومتضمنة في ثناياها.
البُعد الهوياتي للإيديولوجيا الصهيونية
إنّ البُعد الإيديولوجي الصهيوني المشكّل للهوية الإسرائيلية قد تولد إذن عبر مسار تاريخي مكثف مثلته، بشكل تقريبي، (3) تجارب تاريخية، وما ميز هذه التجارب التاريخية هو الكثافة والتسارع والقدرة على رسم البُعد المستقبلي الراسم للبُعد التاريخي الديني.
المرحلة الأولى، رغم أنّها مرحلة تراوحت بين الحكم اليساري واليميني في دولة حديثة النشأة، إلا أنّها مرحلة كانت متسارعة ومهيكلة على هواجس علمية وتكنولوجية وعسكرية تؤسس لقوة إقليمية مختلفة، فكان السقف المستقبلي هو الذي يحدد الوجود الإسرائيلي، حيث تم تغليب كفة البُعد الانتظاري من الوجود الإسرائيلي، بما تتضمنه من نوايا توسعية وقوة إقليمية، التي لم تكن ذاتية الصنع، بقدر ما كانت تتنامى من الدعم الغربي والقوة اليهودية عبر العالم، إذ كان التنظير المستقبلي تنظيرًا بعيد المدى ويتجاوز بشكل كبير التجربة الراهنة آنذاك لجلّ الدول العربية، وربما من هنا قوته التي تجلت اليوم وصعب اللحاق بها، أو هكذا نعتقد.
إنّ الكيان الإسرائيلي لم يستطع الانشقاق عن العالم الغربي، خاصة الامتداد الإنجليزي والأمريكي، وهو نهج لا يعبّر عن تبعية الكيان للقوة الغربية بقدر ما كان عبارة عن علاقة توأمة أو امتداد للقوة الغربية، فمن الناحية الاقتصادية مثل بالنسبة إلى الغرب استمرارًا للمنطق الاستعماري، ومن الناحية الدينية شكّل الأفق المأمول لمستقبل الخلاص اليهودي والمسيحي، لهذا لم تعتبر إسرائيل نفسها يومًا تابعة للغرب، بل شكّل الغرب ذاته بوابة لتحقيق سرديتها وتسطير قوتها الإقليمية بغضّ النظر عن توافق أهدافها وسياستها مع الغرب أم لا، فالغرب لم يكن وصيَّا فقط، بل أداة طيعة في يد الانتهازية الصهيونية.
أمّا المرحلة الثانية، فهي التي مثلت ذروة الإحساس بالقوة الإقليمية لدى الكيان، ويمكن التأريخ لها منذ هزيمة العرب 1967، الهزيمة التي شكّلت أرضية صلبة لإمكان تحقق النبوءة اليهودية، إذ تعتبر أوّل مرة في التاريخ اليهودي يحقق فيها انتصارًا دنيويًا/مدنيًا في إطار غاية دينية، فالدولة المدنية استطاعت أن تتماهى مع السردية التوراتية، كأننا أمام نبوءة إلهية بإمكان تحقق الوعد الإلهي لشعب الله المختار. هذا الأمر ضاعف آليات الضغط، وأيضًا توأمة التوجهات الإسرائيلية والغربية، فإسرائيل هي السبيل لتحقق السردية المشيحانية، ومن هنا تكون الدولة اليهودية نتاجًا لمأمول العالم الغربي، ما دام أنّه استطاع دمج المدني في قلب الديني، على خلاف ما اتجه إليه الغرب خلال الأزمنة الحديثة من تضمين الديني في قالب دنيوي.
المرحلة الثالثة هي المرحلة التي استطاعت من خلالها إسرائيل بعد معاهدات السلام التي أبرمتها مع العديد من الدولة العربية الانتقال من الدولة المرفوضة الى الدولة الصديقة، أو ما يدخل في باب التطبيع ما بين العرب وإسرائيل، وهي المرحلة التي امتدت خلال القرنين الأخيرين إلى حدود اليوم. من هنا تعاظم الشعور الصهيوني بالاصطفاء، ليس في بُعده الديني، بل اصطفاء في بُعده الكوني.
صراع مُركّب
حقيقة أنّ الصراع الدائر اليوم في الشرق الأوسط هو صراع مُركّب ومتشابك بشكل لافت، إلا أنّه صراع مفضوح وصريح لدرجة مدهشة، وهو أمر أسهم فيه تغليب كفة الشعبوية والعربدة السياسية على التوجهات الاستراتيجية المعتادة، فكيف يمكن تفسير ذلك؟
– قد يكون العجز العربي قد أسهم، بشكل ما، في جعل القوى الغربية والإسرائيلية تبوح بجلّ تصوراتها وتمثلاتها وخططها نحو العرب، دون أن تخشى ردة فعل معاكس.
– إسرائيل تعيش اليوم، بعد مسار تاريخي سريع ومكثف، بشكل لافت، على وقع ريع عالمي، حيث يطلب علانية تأدية كفالة وجود إسرائيل، وضمان تحقق سرديتها التوراتية على كل من يدور في فلكها مطبّعين أو داعمين، إذ بالبداية كان الأمر يقتصر على الغرب، لكن بعد عملية التطبيع امتد الأمر إلى الدول العربية، بالتالي يصير هنا البُعد العالمي تابعًا للسردية اليهودية ومهيئًا لتحققها.
– الذهن الصهيوني هو ذهن انتهازي يقتات على منطق الاصطفاء القومي ودق ناقوس عقدة الذنب التي واكبت المسار التاريخي للشتات اليهودي في آذان المذنبين الغربيين. فهو على مستوى الريع الوجودي منفتح على الدول المطبّعة والدول الغربية، وعلى مستوى الاصطفاء العرقي فهو منغلق، إلا أنّ انغلاقه يتغذى على ضرورة استمرار العيش في ريع المختلف أو المقصي من الاصطفاء الديني، فبدونه يموت ويفقد قدرته على الاستمرار والتأثير.
– لا يمثل الغرب بالنسبة إلى إسرائيل سوى القبة الحديدية التي تحمي إسرائيل دون أن تقودها أو تحدد مسارات سياساتها، إذ على العكس يبدو منذ عقدين تقريبًا أنّ إسرئيل هي التي تقود الغرب نحو تجلّي عمقه القومي والديني، فرغم التوجه العلماني الغربي المعلن، فإنّ الوجود الإسرائيلي يمثل المأمول والمضمر في عمق المشروع الغربي المعلمن.
نقلا عن حفريات