فاطمة علي
كاتبة مصرية
مُنذ عام 1952 هناك عقيدة ثابتة في الجهاز الإداري للدولة حول تمكين الرجل الصغير، ذلك الرجل بالقدرات المحدودة والملكات الضعيفة والخيال الفقير مع طاعة عمياء لا محدودة لرئيسه أو للنظام ذاته، من أهم سماته التزلف وترسيخ حكم من يعلونه.
احتلّ هذا الرجل كل المفاصل في الدولة، أزاح أيّ رجل يمكن أن يتوسم فيه درجة من العلم، عمله طوال الوقت يعتمد على اللّامنهجية واللّارؤية العشوائية، التسبيح بحمد رئيس المصلحة أيّاً كان، تجده في المستشفيات والمدارس ودور العبادة والمصالح الحكومية النائية، وفي القاع وفي القمة، أو بالأحرى القمة تُنسخ للقاع، فقد شهدت مصر رجالات دولة ووزراء في أماكن شديدة الحساسية من هذا النوع.
وجدنا هذا الوجه في كثيرين، الوجوه نفسها التي حرست البوابات، واحتكرت السلطة ورسمت ملامح عصر كامل، وهي لا تملك أدنى حد من كفايات مناصبها، ما عدا أنّ هؤلاء لهم دائرة كبيرة من العلاقات الاجتماعية، وملكة تذلل في الاستجداء، مع مهارات محدودة لا يمكن أن تشكل يوماً تهديداً لأحد، هي صغيرة بما يكفي لتجد أنّ الكراسي واسعة عليهم جدّاً، ولهذا فعليهم أن يحافظوا عليها بأيّ طريقة مبتذلة.
وقد تحدث عن هذا بعبقرية بالغة جمال حمدان في موسوعته “شخصية مصر” حيث قال: “لقد أصبح من سمات الحياة العامة في مصر أن يُقصى الكبار ويُستدعى الصغار، أن يُبعد أهل الكفاءة ويُقرّب أهل الثقة، حتى ضاعت الدولة بين أيدٍ صغيرة لا تملك إلا الأمانة على التفاهة”.
الرجل الصغير في الراهن الثقافي
ومن المؤسف أنّ الدولة لا تتنبه إلى أنّه في بعض القطاعات الحيوية يُمثل تمكين الرجل الصغير كارثة حقيقية، مثلما حدث عندما تولى مناصب دور وقصور الثقافة إناس بعيدون جدًا عن الثقافة، فتخربت دور ومصالح ومنصات لا يُمكن أن يملأها إلا رجال ذوو حس، فإذا تغاضينا عن بعض الأماكن الصغيرة القيمة التي يُمكن أن يديرها أيّ رجل فلا تُمثل إدارته تخريباً وإنّما فقط سوء إدارة، فإنّ هذا لا يستقيم مع بعض الأماكن الحساسة، هناك مناصب تستدعي رجالاً بأعينهم، وقُدرات وكفاءات بأعينها.
يقول جمال حمدان في موضع آخر: إنّ مصر لا تعاني من نقص العباقرة، بل من كثرة الصغار في مراكز الكبار، ومن ضياع الكفاءة تحت أنقاض المحسوبية والشللية”.
وبلغ ذروة الكمال في توصيف المشهد حين قال: “إنّ أسوأ ما تفرزه البيروقراطية العقيمة هو تحويل المنصب من مسؤولية إلى مكافأة، وهنا يجد الرجل الصغير فرصته الذهبية.”
حين ينظر أحدهم إلى التاريخ يجده لا يخلو أبداً من مرتزقة الكراسي ومتزلفة السلطان، وكان هؤلاء المتزلفة لا يعدمون الدهاء السياسي وحيازة الكفايات ما استطاعوا والتقلب على كل لون والولاء إلى حدّ إلغاء الذات في سبيل البقاء في بؤرة الضوء، ولكنّ مرتزقة اليوم الذين يطلون علينا من الكراسي الواسعة والمسميات الوظيفية العريضة وقاماتهم الضئيلة يعدمون الدهاء، ويعدمون الكفاية ويعدمون فن التواصل مع العامة والجمهور والإلمام بروح العصر والتكيف مع ما يستلزمه.
وقد ظهر هذا جليّاً جدّاً في مقابلة زاهي حواس مع المؤثر الإعلامي الأمريكي الشهير” جو روجان”، فلم ينتبه السيد حواس إلى أنّه مع رجل يتابعه الملايين من كل أنحاء العالم، وأنّه لقاء خطير جدّاً، يكفي أن نعرف أنّ روجان استضاف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أثناء حملته الانتخابية، ممّا يعطيك فكرة عن تأثير منصته، وللتأثير الخطير نفسه لم تحضر منافسته على كرسي الرئاسة، خوفاً ممّا يجرّه لقاء احترافي طويل من زلات.
الفرصة الضائعة
كان لدى السيد حواس فرصة ذهبية ليُظهر فيها عظمة البلد الذي يُمثله من خلال حوار مُتقن وهادئ، وسيكفل لمصر ترويجاً مجانياً للسياحة، وهذا يقع في صلب وصميم عمل السيد حواس الذي لم تشهد عهود إدارته لملف الآثار والسياحة نهضة حقيقية، لكن عوضاً عن سماع حوار راقٍ على منصة عالمية، نجد الرجل غارقاً بطريقة استفزازية في الترويج لكتبه، تحكمه أنا متورمة حول إنجازاته، إلى حدّ قول السيد روجان: “إنّ هذا أسوأ بودكاست أجراه”.
وقد جاءت التعليقات عليه سلبية من مختلف البلدان بشكل يجرح المتابع المصري الذي مهما اختلف مع زاهي حواس فإنّه بالأخير خرج ليكون لسان مصر، وأنّ هذه السخرية من جنسيات مختلفة على اللقاء تمس أيّ غيور على وطنه، يكفي أن تقرأ أنّ أحد المتابعين قال: “تحاول أن تتجاوز كل المحتالين حول الأهرامات، حتى تجد كبيرهم هنا”.
لقد كانت الطريقة التي يروّج بها لكتبه بالغة التزلف والسوء، فضلاً عن أنّه لم يتمتع بأيّ درجة من الكياسة الأكاديمية وهو يتلقى استفهامات روجان حول نظريات بناء الأهرامات، وانبرى في دفاع انفعالي، وكأنّه يتلقى هجوماً شخصياً أو هجوماً على معتقده، والأولى أنّ أيّ ردٍّ على هذه النظريات كان يجب أن يكون بالغ الهدوء والرزانة، مشفوعاً بالأدلة العلمية التي كانت يجب أن تكون حاضرة مع السيد حواس، وليست إحالته الدائمة لـ “كتابي”.
لقد ظن السيد حواس أنّه على قناة إعلامية شرق أوسطية، يُسمع إلى كلامه بالتهليل والتطبيل والنفخ، واعتقد أنّه يجلس أمام إعلامي محلي، لا يَتبُع الأسلوب المنهجي والاستقرائي في الحوار.
هجمة “الأفروسنتريك”
لا يخفى على أيّ شخص مُتابع للشأن الثقافي العالمي أنّ مصر تواجه منذ عدة أعوام هجمات ما يُسمّى بالـ “الأفروسنتيريك”، أو المركزية الأفريقية، وتلك حركة تروّج للحضارة المصرية أنّها كانت بأيادي البشرة السمراء، وأنّ الأفارقة هم من بنوا تلك الحضارة، متجاوزين كل الأدلة التاريخية التي ما زالت قائمة تقريباً في كل بقعة من مصر، تشهد بأنّ هذه الحضارة هي ابنة العرق المصري، وأنّ الفترات التي شهدت حكم ملوك أفارقة جاءت في فترة تاريخية متأخرة جدّاً، وقد عدّها المصريون استعماراً.
لقد كانت هذه فرصة عظيمة لو كان من يجلس أمام جو روجان هو أكاديمي ذو سعة صدر وأفق، لم يصل إلى الشهرة ويحتكر علم “المصريات” إلا لِصلاته الشخصية بأسرة الرئيس مبارك ونجومية إعلامية سوّقت له باعتباره وجه مصر الأثري، فعمل على صناعة كاريزما بقبعته الشهيرة وثقته المفرطة والمنفرة وظهوره في كل وثائقي غربي عن مصر، حتى عُدّ منذ ذلك الحين حارس المعبد وحائز العلم والأسرار، والوجه المتصدر في كل القنوات حين نتحدث عن حضارتنا، وكأنَّ مصر خلت من الأكاديميين الرصينين في علم “المصريات” الذين سيكون أداء أقلّ واحد منهم أفضل من أداء السيد حواس.
إنّ “المصريات” علم قائم بذاته، والحضارة المصرية أعظم حضارة على وجه الأرض، ليست بدواعي غرور وطني، ولكن هذه هي الحقيقة القائمة، نحن في مصر نسير على تاريخ، وهذا إرث إنساني كبير وماضٍ وطني مجيد، يستحق أن نُصدّر للحديث عنه نُخباً وصفوةً، لأنّ الفصاحة والعلم جزء أساسي من وجود الأمم.
إنَّ الفكرة التي يتبناها الإعلام المصري حول تضخيم بعض الشخصيات نصف المثقفة ونصف العالمة، ويعطيها أدواراً أكبر من حجمها، ستؤذي بشدة، إنّ الأمر شبيه جدّاً بالدائرة المغلقة؛ المقدمات ستؤول إلى نتائج تشبهها.
وعلى ذكر هذا الأمر لا أستطيع أن أتجاوز مقارنة ذات دلالة حول ما كان عليه الرجال المرتزقة في العصور الماضية وفي عصرنا الحالي، حيث كان الرجل المتسلق لا يعدم كفايات المناصب التي يستقتل عليها مع سيولة مبادئه وتعدد ولاءاته، وأبرز شخصية يمكن أن يتضح معها ذلك هو الرجل الداهية “يعقوب بن كلس” ذلك اليهودي الذي وصل إلى قلب الدولتين الإخشيدية والفاطمية، فادّعى لنفسه نسباً مقدّساً ينتهي بنبي الله “هارون”.
وُلد في بغداد، وعمل بالتجارة في الشام، وكسب ثقة من حوله حتى أصبح وكيل التجار في مراهقته، قال عنه ابن عساكر: إنّه كان “خبيثاً ذا مكر ودهاء وفطنة، وكان وكيل التجار في الشام، فكسر أموالهم وفرَّ إلى مصر”.
وفي مصر جعلته مهارته على ضبط الحساب والمعاملات من خواص رجال كافور، وقد تقرّب إلى كافور نفسه شيئاً فشيئاً، حتى بلغ أنّ الحجّاب والأشراف يقومون له ويكرمونه، وجعل كافور لا يصرف درهماً من الدواوين إلا بعد موافقة ابن كلس، وحين بلغه أنّ كافور الأخشيدي قال إنّ ما يمنعه من أن ينصب ابن كلس وزيراً كونه يهودياً، أسلم على الفور، بل استحضر الفقهاء والعلماء لكي يفقهوه في الدين والنحو.
ولمّا ساءت أموره في مصر بعد أن مات كافور، هاجر إلى المغرب، وهناك تقرب إلى اليهود من حاشية جوهر الصقلي، نعم تقرب إلى اليهود الذين هَجَر مِلتهم، وصار من حاشية الصقلي حتى دخلوا مصر، وترقى في خدمة المعز لدين الله الفاطمي، واستقرت له مالية الدولة المصرية، فصار كل درهم ودينار تحت تصرفه في الدولة، التي امتدت وقتها وشملت الشام والحجاز، ودرس المنهج الإسماعيلي حتى أصبح من المراجع المهمة فيه، وألف فيه الكتب، وحين مرض ابن كلس مرض الموت حزن عليه الخليفة حزناً شديداً، وقال له: “وددت أن تباع فأبتاعك بملكي، أو تُفدى فأفتديك بولدي”.
هذه عينة من الرجال الذين حاربوا على الكراسي، تلونوا وتنازلوا وغيروا مللهم وملكوا قلوب رؤسائهم واجتهدوا أيضاً وملكوا الكفايات، وملؤوا كراسيهم باستحقاق علمي، وإن لم يكن أدبياً، فلماذا نجد في مصر وجوهاً تتصدر لا تملك الحد الأدنى من أيّ شيء؟.
نقلا عن حفريات