ماريا قبارة
كاتبة سورية
في هذا العام تحتفل الكنيسة بمرور (1700) عام على انعقاد مجمع نيقيّة الأول (325م)، الحدث المفصلي الذي أسّس للعقائد الكبرى في الإيمان المسيحي، والذي حدّد الإطار اللّاهوتي والسلطوي للكنيسة الناشئة.
ولكن، وسط هذه الاحتفالات يلوح في الأفق سؤال جوهري:
من كان حاضرًا؟ ومن غُيّب؟
بصفتي مؤمنة ولاهوتية أرثوذكسيّة، أستعيد هذا المجمع لا لأحتفل فقط، بل لأقرأ في طياته الوجه الآخر من التاريخ الكنسي، ذلك الوجه الذي غابت عنه النساء، لا بفعل ضعفٍ في الإيمان، بل نتيجة بنية سلطوية، ذكورية، تمأسست باكرًا، وقنّنت تغييب نصف الجسد الكنسي.
العنصرة: كنيسة تبدأ بالجميع
في بداية الكنيسة، لم يكن التمييز بين الرجل والمرأة جزءًا من الحياة المسيحيّة في يوم العنصرة، نقرأ في سفر الأعمال:
“كانوا يواظبون بنفس واحدة على الصلاة… مع النساء، ومريم أم يسوع” (أعمال 1: 14).
الكنيسة الأولى كانت جماعة من الرجال والنساء، متحدين بالصلاة والرجاء، مجتمعين في العلية، ينتظرون الروح القدس.
وعندما حلّ الروح، لم يفرّق: الجميع نال القوة، والجميع نطق بلغات، والجميع صار شاهدًا على بداية الكنيسة.
الإقصاء المُمأسس في نيقيّة:
لكن بعد أقلّ من (3) قرون، في نيقيّة، تغيّرت الصورة.
اجتمع أكثر من (300) أسقف، كلّهم رجال.
لم تُدعَ امرأة واحدة، لا خادمة كلمة، لا لاهوتية، لا مؤمنة ذات خبرة روحية.
نيقيّة، التي أرست وحدة الإيمان، أسّست في الوقت عينه لنمط كنسي يُقصي النساء عن القرار والمجمعية والمساءلة.
لم يكن ذلك مجرد غياب تمثيلي، بل هو تأسيس لعقيدة ضمنية تقول إنّ القيادة الروحية والعقائدية هي حكر على الذكور.
الكنيسة جسد، فهل يحيا من دون نصفه؟
إذا كانت الكنيسة “جسد المسيح”، كما نردد دومًا، فهل يجوز لجسد أن يحيا بنصفه فقط؟
كيف يُمكن لمجمع أن يدّعي الشمولية، أو “الجامعة”، وهو يُقصي نساء الكنيسة؟
هل نستطيع أن نكمل الحديث عن المجامع والسلطة الروحية، بينما نُهمّش مواهب النساء ونصادر أدوارهن؟
(1700) عام من الغياب… ومقاومة صامتة:
طوال قرون استمرّت النساء في خدمة الكنيسة من دون اعتراف بنيوي بموقعهنّ.
تعلّمن، علّمن، بشّرن، قدن جماعات، خدمن في الرعاية، في التعليم، في الصلاة، في الفنّ اللّيتورجي، ولكن ظلّ حضورهنّ يُنظر إليه كخدمة صامتة، لا كمشاركة فعالة.
حتى اليوم، في معظم الكنائس الأرثوذكسية، ما تزال النساء خارج هيكليات القرار الكنسي. المجامع لا تشملهنّ، واللّيتورجيا لا تسند إليهنّ أدوارًا واضحة، والخدمة غالبًا ما تُختصر في الطقوس، لا في المشاركة النبوية والرسولية.
كنيسة اليوم ومؤتمر نيقيّة المعاصر:
وفي ظلّ هذا التاريخ الطويل تستعد الكنيسة الأرثوذكسية في هذا الأسبوع لعقد مؤتمر حول مجمع نيقيّة ـ مؤتمر أرثوذكسي يُفترض أن يكون نافذة على التجدد.
لكن، كم عدد النساء المشارِكات؟ هل طُلب من المؤمنات اللواتي يدرسن ويكتبن ويُعلّمن أن يُشاركن؟
هل فُتح هذا الحوار الكنسي للنساء بصفتهن ليس فقط مستمعات بل شريكات في صنع القرار؟
من “نساء العنصرة” إلى “لاهوتيات نيقيّة القادمة”:
في مقالة سابقة لي، “نساء العنصرة”June 2020 7 قلت: “إنّ الحضور النسائي في العلية لم يكن رمزيًّا، بل نبويًّا.
النساء لم يكنّ مجرّد مرافقات، بل حامِلات للروح، نلن النصيب الأفضل، كما أعلنت في بيت عنيا، وكان لهنّ الدور في نشر الكلمة وبناء الجماعات”.
اليوم، أعيد التأكيد على هذه الحقيقة:
“النساء خادمات الروح القدس الذي تكلّم بالأنبياء، وما زال يتكلّم في الكنيسة جاعلًا منها جسدًا حيًا ومحييًا.”
لا يمكن أن نستمر في استبعاد النساء من مجامعنا، ثمّ ننتظر أن تُشفى الكنيسة من أمراض الانقسام، والعجز، والجمود.
بين نيقيّة الأولى ونيقيّة الممكنة:
نيقيّة الأولى كانت ضرورية لتثبيت الإيمان، ولكنّها لم تكن خالية من التناقضات.
اليوم، بعد (1700) عام، نحن بحاجة إلى مجمع جديد، لا ليُعيد تكرار السلطة القديمة، بل ليُعلن إصلاحًا كنسيًا جذريًا، يبدأ من إعادة الاعتراف بالنساء، لا كموضوع للنقاش، بل كصاحبات قول ورأي وموقف.
نحتاج إلى نيقيّة تُنصت للروح، لا تُكرر الماضي. نحتاج إلى مجامع نبوية، مفتوحة، لا سلطوية مغلقة.
نحتاج إلى لاهوت جديد، يتكلّم بلغات الجميع، رجالًا ونساءً، كهنة وعلمانييّن، آباء وأمهات.
توبة لا احتفال:
إن أردنا حقًا أن نحتفل بنيقيّة، فليكن احتفالنا اعترافًا وتوبة.
توبة عن الإقصاء، عن الصمت، عن الذكورية، عن التسلّط.
توبة تعيدنا إلى روح العلية، حيث لم يكن لأحد سلطة على الروح، بل الجميع انتظروا وتلقّوا وتكلموا.
مجمع نيقيّة الجديد لا يُعقد دون نساء:
الكنيسة لا تحيا بالتقليد وحده، بل بالروح المتجدد فيه. وإذا كان الروح ما يزال يعمل، فسيظلّ يدعو الكنيسة إلى أن تُصلح ذاتها. اليوم، بعد (1700) عام، أدعو الكنيسة الأرثوذكسيّة، من قلبي كمؤمنة ولاهوتية وخادمة كلمة:
افتحي مجامعك للنساء، لا كرمز بل كركن أساسي.
أعيدي الروح إلى لحمك. أعيدي الكلمة إلى قلبك. أعيدي النساء إلى تاريخك وحاضرك ومستقبلك.
“مبارك أنت أيّها المسيح إلهنا، يا من أنرت الكل بغزير حكمتك… لا تُطفئ نورك عنّا، بل اجعلنا جميعًا، رجالًا ونساءً، صورة ملكوتك الآتي.”
نقلا عن حفريات