فؤاد قائد جُباري
تعيش العاصمة عدن وعدد من محافظات الجنوب على وقع أزمة اقتصادية ومعيشية خانقة، لم تعد تخفى آثارها الكارثية على أحد؛ حيث بات المواطن الجنوبي محاصرًا بين فواتير الخدمات المنعدمة، وارتفاع أسعار المواد الغذائية، وانهيار منظومة الكهرباء، وسط صيف لاهب تزامن مع غياب المرتبات، وانهيار العملة المحلية، وارتفاع أسعار المواد الأساسية. هذه التحركات الشعبية – حتى وإن حاولت ركوبها وتوظيفها بعض الأطراف السياسية – جاءت في الحقيقة تعبيرًا عن حالة احتقان مزمن تراكمت مسبباته وتفجرت تحت وطأة واقع اقتصادي واجتماعي بات لا يطاق، في ظل عجز حكومي شبه كامل.
في خضم هذه الأزمات المتداخلة، يبرز المجلس الانتقالي الجنوبي بوصفه طرفًا رئيسيًا في المعادلة، ليس فقط كقوة سياسية وعسكرية تمثل مشروع استعادة الدولة الجنوبية، بل أيضًا كأحد الشركاء الفعليين في حكومة المناصفة التي جاءت عقب اتفاق الرياض. وتزداد حساسية الموقف بالنسبة للمجلس لأنه يملك قاعدة جماهيرية عريضة في الشارع الجنوبي، وهي ذات القاعدة التي سحقتها الأوضاع المعيشية وخرجت تطالبه لا بالشعارات، بل بالكهرباء، والماء، والرواتب، والكرامة المعيشية.
ومع أن الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا تبدو فاقدة للقدرة على اتخاذ القرار السيادي، فإن المجلس لا يستطيع الاكتفاء بتعليق المسؤولية على شماعة الحكومة، في وقت أصبح فيه شريكًا في السلطة، ويتمتع بوجود سياسي ضمن مجلس القيادة الرئاسي، ويمارس نفوذًا مباشرًا على الأرض في المحافظات الجنوبية. وبالقدر نفسه، فإن الدور الإقليمي – ممثلًا بالتحالف العربي – لم يبد حتى الآن أي موقف فاعل أو تجاوب ملموس تجاه الانهيار الاقتصادي والخدمي المتفاقم، ما يضع الجميع أمام اختبار أخلاقي قبل أن يكون سياسي واقتصادي.
في هذا السياق، يصبح من واجب المجلس الانتقالي أن يتحرك على ثلاثة مسارات متزامنة:
أولًا: الاعتراف بمشروعية مطالب الشارع
من الحكمة أن يتعامل المجلس مع هذه الاحتجاجات والمطالب كتفويض شعبي له للمواجهة والمحاسبة، لا كاداة ضغط عليه، ويعلن عبر قيادة رفيعة المستوى، تضامنه واعترافه بمشروعية مطالب المحتجين الخدمية، وتفهمه الكامل لمعاناتهم، ويؤكد لهم أن صوتهم مسموع، بعيدًا عن أي محاولة لتأطيرهم كخصوم أو مثيري فوضى؛ فالحفاظ على الشرعية النضالية للمجلس لا يتم بالصدام مع القاعدة الشعبية، بل بالتفاعل العقلاني معها، وهو ما سيفوت الفرصة على الأطراف المناوئة ركوب موجة هذه الاحتجاجات وتوظيفها. هذه المعضلة تحتم على قيادة المجلس اتخاذ قرارات مسؤولة ومدروسة، تتجاوز الخطابات السياسية التقليدية، وتلامس هموم الناس فعليًا.
ثانيًا: الانتقال من موقع المراقب إلى الفاعل
يتطلب الأمر اتخاذ إجراءات إسعافية عاجلة، كإطلاق خطة طوارئ خدمية واقتصادية تتركز مبدأيًا على معالجة أزمة الكهرباء، وتمكين السلطات المحلية في العاصمة عدن من استخدام الموارد الذاتية لتوفير حلول آنية كشراء وقود، مع إنشاء خلية أزمة مهنية. كما أن المجلس مطالب بمصارحة الناس عن الواقع والإمكانيات وحدود القدرة، ما يعزز الشفافية ويبقي الثقة متماسكة بينه وبين قاعدته، ويبعد عنه مسؤولية تحمل هذا الفشل الحكومي لوحده.
ثالثًا: الضغط المنظم على التحالف العربي والجهات الأممية ذات النفوذ
بما أن حكومة الشرعية – بشقيها – قد فقدت قدرتها الفعلية على اتخاذ قرارات مؤثرة في المجالين الاقتصادي والخدمي، بعدما انتقلت خيوط التحكم الفعلي إلى يد التحالف العربي، وتحديدًا المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات، اللتين تمسكان بزمام القرار السيادي والاقتصادي في البلاد، ينبغي أن يفعل المجلس أدواته السياسية والإعلامية والدبلوماسية للضغط على التحالف والأطراف الأممية الفاعلة من أجل تقديم دعم عاجل لعدن وبقية المحافظات الجنوبية والمحررة؛ فالصمت الإقليمي والدولي تجاه هذه الأزمة الإنسانية لا يخدم سوى أعداء الاستقرار وأطراف النزاع الأخرى، ويهدد بانفجار اجتماعي لا يحمد عقباه.
إن المجلس الانتقالي – وهو يقف عند هذا المنعطف الحرج – عليه أن يدرك أن التحدي اليوم لم يعد محصورًا في إدارة الصراع مع الخصوم السياسيين، بل في إدارة ثقة الناس به كمشروع سياسي يمثل آمال وتطلعات وطموحات الشعب الجنوبي؛ فالشعارات وحدها لم تعد كافية، والوجع الشعبي لم يعد يحتمل مزيدًا من التجاهل أو التسويف.
لقد آن الأوان للتحول من شعار “استعادة الدولة” إلى ملامسة الدولة، ولو بأبسط أدواتها: الكهرباء، والماء، والدواء، والكرامة.