* د. يوسف مرعي
دكتوراه علاقات دولية، وسياسة دولية جامعة بطرسبورغ الحكومية
كان لافتًا في جولة الرئيس الأمريكي الخليجية الأخيرة غياب اليمن من أجندته وتهميشه، وعدم حصول رئيس مجلس القيادة الرئاسي على فرصة للقاء به، فضلًا عن عدم حضور الأخير القمة الخليجية – الأمريكية.
ولم يحضر اليمن إلا في معرض رد ترمب على بعض أسئلة الصحفيين الذين تناولوا إتفاق واشنطن مع الحوثيين حول وقف إطلاق النار.
ففي الزيارة الأولى للرياض أشاد بجماعة الحوثي بوصف مقاتليها بالأشداء، وفي زيارته للدوحة جدد التأكيد على ذلك وقال حرفيًا: “في اليمن، لديهم مشكلة كبيرة مع الحوثيين. أعتقد أن هذه مشكلة بالنسبة لهم. كما تعلم، لا يمكنك أن تكون متأكدًا تمامًا. إنها منطقة معقدة من العالم. لكن طُلب منا أن نتوقف عن إطلاق النار على الحوثيين، وهذا أمر لم يُطلب من قبل، لأنهم أشدّاء ومقاتلون جيدون وكل ذلك. لكنهم لن يقوموا بعد الآن بتفجير السفن في البحر. وهذا ما أردناه”.
وقال: ” إنهم يحاولون مساعدة أنفسهم أيضًا، ونحن نريدهم أن ينسجموا مع السعودية. وأضاف: “نحن نتعامل مع الحوثيين، وأعتقد أن ذلك كان ناجحًا جدًا. لكن ربما يتم شن هجوم غدًا، وفي تلك الحالة سنعود إلى الهجوم.
وعند الوقوف أمام تصريحاته هذه سنجد الكثير من الأبعاد ولا شك أن التعبير عن إعجابه بـ”الحوثيين لا ينفصل عن شخصية الرجل المهووس بالقوة وبالأقوياء، وغالبًا ما أشاد بالرئيس بوتين وبقوته رغم الخصومة وتقاطع المصالح الروسية – الأمريكية”.
لا شك أن أسئلة كثيرة برزت في أذهان اليمنيين أمام هذا التهميش لعل أهمها: هل يعقل أن موقع اليمن الاستراتيجي عند مضيق باب المندب -كشريان حيوي للتجارة العالمية- يُقابل بهذا التهميش لقيادته الشرعية، ألم يكن حريٌ بواشنطن التي تحارب الحوثيين لضمان أمن الممرات البحرية زيادة اهتمامها بخصوم الحوثيين على اعتبار أن هذه الجماعة باتت تمثل أداةً من أدوات القوة التعديلية في النظام الدولي (الصين، روسيا، وإيران)؟، وأنها تمثل من وجهة نظر جيوبولتيكية روسية بحسب منظر الكرملين “دوغين” جزءًا أساسيًا ومهمًا في نظرية أوراسيا الكبرى، وأنها حسب وصفه قوة البر العربية الرئيسية في مواجهة قوة البحر “الإنجلوساكسونية” الغربية، وأن دعمها سيقود لإنجاح مشروع التعددية القطبية الذي بدأته روسيا في أوكرانيا.
ثم إذا كانت جهود إدارة ترامب تركز على تشديد الضغوط على الصين؛ فلماذا ظهر هذا التهميش المتعمد للشرعية اليمنية، خاصة في ظل ظروف المواجهة والتنافس مع الصين؟!.
عقد كامل من الحرب في اليمن بسبب الانقلاب على الدولة اليمنية، كان كفيل بإدخال البلاد في صميم التفاعلات الجيوسياسية الأوسع (قوى الهيمنة الغربية، والقوى التعديلية الصين وروسيا)، وإقليميًا (إيران والخليج العربي). وللإجابة عن بعض الأسئلة السابقة ومحاولة استكشاف بعض السيناريوهات لا بد من قراءة ذلك عبر عدسة المصالح المتشابكة، وكذلك الأولويات الأمريكية المتغيرة.
أولًا: أدت الانقسامات داخل الشرعية اليمنية إلى تراجع موقفها كشريك فعّال لواشنطن، لا سيما فيما يتعلق بأي عملية برية محتملة ضد الحوثيين قبل التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بين ترمب والجماعة الحوثية.
وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن معهد دول الخليج العربية في واشنطن كان قد تناول في مقال لـ”جريجوري جونسن” التصعيد الأمريكي ضد الحوثيين، والخيارات المتاحة أمام “واشنطن” في التعاطي أمام معضلة الحوثيين، ومن الخيارات التي ذكرها هو أن تقدم الولايات المتحدة دعمًا واسع النطاق للقوات المناهضة للحوثيين في اليمن، وتستخدم بشكل أساسي هذه القوات كقوات برية بنفس الطريقة التي استخدمت بها قوات سوريا الديمقراطية في حملتها لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية.
لكن جونسون أشار إلى أن إدارة ترامب تراهن على أن المزيد من الضربات سيُرجّح كفة ميزان هذه القوى، ويُجبر الحوثيين على التخلي عن هجماتهم على السفن التجارية. ربما تكون الإدارة مُحقة، لكن آخرين راهنوا على نفس الشيء ولم يُفلحوا، وهو الأمر الذي حدث بعد ذلك إذ قادت كثافة الضربات الأمريكية بتخلي الجماعة عن هجماتها على السفن.
ولنفس الكاتب مقال آخر كان قد تناول فيه الخيارات المتاحة لمواجهة الحوثيين، ومنها خيار نهج “الهزيمة”، ويتمثل بأنه في حالة إدراك واشنطن أن الحوثيين يشكلون تهديدًا دائمًا لمصالحها في المنطقة. فإنها لن تكتفِ بضرب الحوثيين عسكريًا فحسب، بل ستعمل بنشاط على هزيمتها، من خلال دعم التحالف المناهض للحوثيين في الحرب الأهلية اليمنية.
لكن المشكلة الأبرز من وجهة نظر الكاتب التي سيواجهها هذا النهج، هو عدم وجود تحالف واحد مناهض للحوثيين ، فالتشكيلات العسكرية المناهضة لهم منقسمة، ولها تأريخ من الاقتتال فيما بينها.
وبالتالي كان غياب الانسجام والرؤية الموحدة بين هذه المكونات أحد الأسباب الرئيسية وراء إحجام واشنطن عن دعم هذا الخيار، هذا بالإضافة إلى أن ترمب كرئيس تهيمن عليه الدوافع الاقتصادية ومنطق “الكلفة والتكاليف”.
وطالما التزم الحوثيون بعدم مهاجمة المصالح الأمريكية، فما الداعي إذن لتبني خيار من شأنه أن يقوّض مقاربات بعض دول الإقليم التي تربطها مصالح اقتصادية كبيرة بواشنطن تجاه الشأن اليمني، إلا أن منطق التعامل الأمريكي المباشر مع الحوثيين ووصف بعض الدول -كسلطنة عُمان- الإتفاق بأنه بين واشنطن وسلطات الأمر الواقع في اليمن حاول أن يضفي طابع الاعتراف الدولي والإقليمي القانوني للجماعة، وهو الدافع الرئيسي الذي لطالما اختبئ وراء شعار “نصرة غزة” فهجماتها على الملاحة الدولية، غالبًا ما سعت الجماعة من خلاله لابتزار العالم من أجل الاعتراف بها.
ويبدو أن تهميش الشرعية في هذا الاتفاق وصولًا إلى تجاهلها في أجندة زيارة ترمب للمنطقة فتح باب الأسئلة عن طبيعة وجدوى الاعتراف الدولي بالحكومة اليمنية الشرعية، الذي لم يعد ضامنًا للدعم الغربي الفعلي؛ لأن واشنطن تتعامل مع اليمن من منظور “براغماتي” صرف، خصوصًا في ظل الإدارة الجديدة.
لكن إن أمعنا النظر في طبيعة التعاطي الأمريكي مع قيم كالشرعية، والاعتراف، والديموقراطية، والسيادة في القاموس السياسي الأمريكي سنجد أنها قيم ليست مطلقة، بل وسائل تُقاس بمدى فوائدها الاستراتيجية.
كما أن الحكومة اليمنية، رغم اعتراف المجتمع الدولي بها، إلا أن رغبتها في العمل من المنفى جعلها تفقد الكثير من عناصر الحسم في معادلة القوة؛ نتيجة عدم السيطرة الفعلية على الأرض، وعدم قدرتها على إدارة المناطق “المحررة” من الحوثيين، ومن غيابٍ للخدمات، وانهيار العملة، وتعدد التشكيلات الأمنية والعسكرية؛ جعلها في عيون شعبها قبل صناع القرار الأمريكي وغير الأمريكي كيانًا هشًا لا يستحق الاستثمار السياسي أو العسكري.
كما أن الفرق الراهن يكمن في تحول الأولويات الأمريكية من “الحرب على الحوثيين”، وصولًا إلى الاتفاق معهم، إلى إدارة العلاقات مع إيران، خصوصًا بعد جولات المحادثات مع طهران فيما يتعلق ببرنامجها النووي، واعتماد إيران في تعاطيها مع الإدارة الأمريكية الجديدة في هذه المفاوضات على البعد البراغماتي وقراءة الدوافع النفسية لترمب، وشغفه بالصفقات والحوافز الاقتصادية؛ ما يعني أن طهران استطاعت ضمان “سلامة الملاحة” في البحر الأحمر لترمب كثمن لتخفيف الضغط عليها وحلفائها الحوثيين.
وبالتالي فالأمر لا يتعلق بمبادئ القانون الدولي وغير ذلك، بل صار يتعلق بـالمصالح العارية. فعلى سبيل المثال لو نجحت جماعة الإرهاب الحوثية في تقديم نفسها كضامن لأمن البحر الأحمر، أو كشريك في مواجهة ما تُصنفه واشنطن “تهديدات إرهابية”؛ لسارعت الدبلوماسية الأمريكية إلى إعادة رسم تحالفاتها، حتى لو اقتضى ذلك عدم التعامل مع “الشرعية المعترف بها”، رغم أن تصنيف واشنطن للجماعة في قائمة المنظمات الإرهابية، لم يمضِ عليه طويلًا؛ بل سارعت للإتفاق معها؛ فضلًا عن امتداح ترمب لشجاعة مقاتليها طيلة جولته الخليجية.
كما أن التأريخ يثبت أن أمريكا تتعامل مع من يخدم مصالحها وسياستها، بغض النظر عن الشرعية من عدمها: من دعمها لأنظمة ديكتاتورية خلال الحرب الباردة، وصولًا لتحالفها مع ميليشيات في العراق وسوريا تحت ذرائع “مكافحة الإرهاب”، ولن يكون اليمن استثناءً في ظل معادلة المصالح القاسية.
كما أن معضلة السياسي اليمني منذ الانقلاب على الدولة اليمنية أنه تعامل مع الاعتراف والتأييد الدولي فقط بمنطق “اتكالي” بوصفه درعًا يحمي من التهميش. متناسيًا أن القوة وصناعة عواملها، وليس الاعترافات الدبلوماسية، هي ما يفرض الاحترام في الساحة السياسية الدولية، فضلًا عن رهانه واتكاله على الخارج على حساب الداخل؛ ما جعل اليمن تعاني أزمةً وجودية على الساحة الدولية، وحولها إلى كيان مهمش في حسابات القوى الإقليمية والدولية.
لكن هذا التهميش ليس قدرًا محتومًا، بل كان نتيجة تراكمية لإخفاقات رئيسية للساسة وأداء الحكومات المتلاحقة، فالدول لا تتعامل فقط مع الشرعية القانونية، بل أيضًا مع قدرة الأنظمة على تعزيز وجودها وحماية مصالح شركائها الدوليين.
كما أن غياب المشروع الوطني طوال عقد كامل من الصراع مع جماعة الحوثي، والعمل من المنفى؛ حوّل اليمن إلى ساحةٍ للصراع بدلًا من أن يكون طرفًا فاعلًا في المعادلة الإقليمية؛ الأمر الذي أصاب اليمن بمعضلة الفراغ الإستراتيجي؛ وبالتالي فقدان الحكومات السابقة والحالية لرؤية واضحة حول مستقبل البلاد. وأدى لأزمة ثقة مزدوجة، فبالقدر الذي أدى تفشي الفساد وغياب الخدمات، وانهيار العملة، إلى تآكل شعبيتها فإنها أيضًا فقدت مصداقيتها الدولية ووجودها المستمر في المنفى أبلغ دليل على ذلك.
الأمر الأكثر خطورة هو أن درس التهميش الأمريكي ليس مجرد حدث عابر، بل هو جزء من سياسة ممنهجة تهدف إلى جعل “الشرعية” اليمنية واجهة فارغة؛ تمهيدًا لفرض تسويات تُحدَد من الخارج على ما لا يرتضيه الشعب ويريده. فبينما يُمنح لسوريا فرصة للخروج من العزلة الدولية لأن قيادتها الفتية المدركة لمصالح شعبها استثمرت في عوامل القوة، يُحكم على اليمن بالبقاء في حلقة مفرغة من دوامة الصراع مع جماعة نازية. حيث إن ضعف نخبه وفسادها -قبل أي عوامل خارجية- يجعله غير قادر على فرض نفسه كطرف يُؤخذ بعين الاعتبار.
كما أن الرد على هذا التهميش بلقاء القائم بأعمال السفير الروسي تأكيد للضعف وغياب للخيال السياسي، فروسيا التي انطلقت في مفهوم سياستها الخارجية لعام 2016 بضرورة الاعتراف بالنظم الشرعية ورفض الانقلابات وحل الصراعات المسلحة عبر الأمم المتحدة واستنادًا للقانون الدولي؛ غير روسيا التي نص مفهوم سياستها الخارجية الجديد لعام 2023 على ضرورة دعم الكيانات التي تساند روسيا وتوجهاتها بكافة أشكال الدعم بغض النظر عن الإعتراف الدولي بهذه الكيانات من عدمه.
في حين أن الصين رأت في أحداث البحر الأحمر فرصةً لسحب حاملات الطائرات والعديد من القطع العسكرية البحرية الأمريكية من منطقة (الإندوباسيفيك) إلى الشرق الأوسط لتقليص التوازن الإستراتيجي لصالحها وفرصةً لاختبار واشنطن في المناطق الأكثر ضعفًا (نقاط الاختناق البحرية) ومظهرًا يجسد صورة معاناة الهيمنة الأمريكية، أي أن القوى الدولية لا تتعامل مع الأطراف بناءً على شرعيتها القانونية، بل وفقًا لقدرتها على التأثير في الميدان وإدارة الملفات.
في الختام، من المهم إدراك أن هذا التهميش لم يكن نتيجة مؤامرة خارجية فحسب، بل نتاج لتراكم الفشل الداخلي اليمني في إنشاء كيان سياسي متماسك. فالعالم لا يقدّر إلا من يقدّر نفسه، ولا يعترف إلا بمن يمتلك أدوات التأثير والوجود.
والدرس الأهم هنا هو أن “الشرعية الدولية” ليست سوى مفهوم “مرن” في سياق العلاقات الدولية، حيث تتحدد قيمتها الحقيقية بناءً على موازين القوى والمصالح، وليس من خلال المبادئ أو الاعترافات الدبلوماسية المجردة.
والاعتراف الدولي غالبًا ما يكون نتيجة لقدرة الطرف على إثبات أنه فاعل رئيسي لا يمكن تجاهله. كما أن الحقيقة الأكثر قسوة هي أن اليمن، في ظل انعدام مشروع وطني جامع على التأثير الذاتي، ستبقى رهينة لحسابات القوى الكبرى، لا طرفًا فاعلًا في تحديد مصيره. والسؤال الذي يبقى مطروحًا هو: هل تدرك النخبة اليمنية هذا الدرس قبل أن يفوت الأوان؟.
نقلا عن الشاهد