سالم جعفر
ليس من المبالغة في شيء القول إنَّ عبد الله باذيب، المناضل الحضرمي–العدني–اليمني، العربي – الأممي، كان في لحظة تاريخية مفصلية، أحد أبرز التعبيرات الصادقة عن الاشتراكية بوصفها التزامًا أخلاقيًا وسياسيًا بتحرير الإنسان من الاستعمار، ومن علاقات الهيمنة، ومن الأطر المصطنعة التي تنتجها القُوَى المهيمنة لإعادة إنتاج السيطرة باسم “الهويات الجزئية” أو “الخصوصيات الجغرافية”.
لقد كتب باذيب، في زمن كانت فيه الكلمة تُكلف صاحبها حياته، ضد من تواطأوا مع المستعمر البريطاني، لا عبر السلاح فقط، بل عبر الخطاب. ففي العام 1957، شنَّ هجومًا لاذعًا على أحد قادة حركة “الأحرار”، واصفًا إياه بوضوح لا لبس فيه بأنه “يُسبِّح بحمد الجمعية العدنية”، تلك الجمعية التي لم تكن سوى الذراع السياسية للاستعمار البريطاني، التي كانت ترى في اليمنيين “غرباء” في عدن، وتعمل على استبعادهم من فضاء المواطنة والكرامة الوطنية.
لم يتردد باذيب في نعته بالعمالة، لا من منطلق شخصي، بل لأنه رأى في هذا السلوك خيانة لمشروع التحرر الوطني، وتحالفًا موضوعيًا مع المنظومة الكولونيالية، The colonial system، التي كانت تسعى إلى تفكيك النسيج اليمني، وتكريس الانقسام المناطقي بوصفه أمرًا طبيعيًا أو مبررًا تاريخيًا.
لكن ما كان مدعاة للتنديد في الخمسينيات يبدو أنه اليوم، في ظل انهيار المعايير، صار يُحتفى به تحت مسميات جديدة: “الخصوصية الجنوبية”، “الهُوِيَّة المحلية”، “الاستقلال الثاني”.
فمَا نشهده اليوم ليس مجرد نكوص عن المبادئ، بل انقلاب جذري على المشروع الوطني التحرري الذي مثّله باذيب ورفاقه.
بعض من يُحسبون زورًا على الحزب الاشتراكي اليمني، الحزب الذي وُلد من رحم النضال ضد الاستعمار، أصبحوا يتبنّون خطابًا إقصائيًا عنصريًا يعيد إنتاج المنطق ذاته الذي ثار عليه باذيب.
إذْ يرون في اليمنيين القادمين من تعز وإب والبيضاء والحديدة “غرباء”، ويطالبون بطردهم من المحافظات الجنوبية والشرقية، في مشهد يُعيدنا إلى خطاب الجمعية العدنية قبل أكثر من سبعين عامًا. ولكن هذه المرة دون حتى القناع الليبرالي البريطاني، بل بوقاحة فجة تستمد مشروعيتها من تحالف صريح مع الاستعمار الخليجي الحديث، الذي لا يختلف من حيث الجوهر عن الاستعمار البريطاني إلا في أدواته.
إنَّ المفارقة المؤلمة أنَّ من انتموا إلى حزبٍ تأسس على فكرة الوحدة اليمنية، وعلى مقاومة الاستعمار، وعلى بناء دولة ديمقراطية عادلة وموحدة، أصبحوا اليوم جزءًا من مشروع تفكيكي–طائفي، يحتمي بالقوى الإقليمية. ويعملون على تفريغ الجَنُوب من عمقه الوطني، ودمجه في محور خليجي–صهيوني–إمبريالي، لا يرى في اليمن سوى هامش جغرافي قابل للاستثمار العسكري والاقتصادي.
والمسألة هنا ليست فقط في التبدل السياسي، بل في انقلاب المفاهيم.
فإذا كان باذيب يربط الاشتراكية بالموقف من الاستعمار، فإن هؤلاء يربطونها بالموقع الجغرافي.
وإذا كان الاشتراكي الحقيقي يرفض التبعية مهما كانت مغرية، فإن المزيف يدافع عن التبعية طالمَا أنها تمنحه سلطة أو مالًا أو موقعًا في خارطة النفوذ الجديدة.
وهكذا، تتحوّل الاشتراكية من منظومة تحررية إلى شعار أجوف، يُرفع لشرعنة مشروع انفصالي، رجَعي، تابع، لا يختلف من حيث المضمون عن “الجمعية العدنية”، بل قد يكون أكثر خطورة، لأنه يتحدث بلغة الثورة في حين يخدم مشاريع الهيمنة الرجعية.
إنَّ ما يجري اليوم هو إعادة تدوير للمنظومة الكولونيالية بصيغة معاصرة، حيث يُستبدل المستعمر البريطاني بالراعي الخليجي، ويتم تسويق التفكيك الوطني كتحرير، في حين يُشيطن كل من يدافع عن وحدة اليمن واستقلاله السياسي بوصفه “عدوًا للجنوب”، أو “مخترقًا خارجيًا”.
لكن كما فشل مشروع الجمعية العدنية، سيفشل هذا المشروع أيضًا، لأن الشعوب لا تُخدع إلى الأبد، ولأن الخطاب الذي يشرعن التمييز والإقصاء لا يمكنه أن يبني دولة، ولا أن يصنع حرية، ولا أن يحفظ كرامة.
والمهمة الملقاة على كاهل كل من لا يزال وفيًّا لذاكرة باذيب، ليست فقط في تذكير الناس بالتاريخ، بل في فضح الزَّيف الذي يُروّج اليوم باسم الاشتراكية وهو في جوهره نقيضها الكامل.
إنَّ عظمة عبد الله باذيب لا تكمن فقط في مواقفه، بل في انسجامه الأخلاقي والفكري، في وضوحه الطبقي، وفي رفضه لأي تحالف مع الاستعمار، مهما كانت المبررات.
أما هؤلاء الذين يزعمون انتماءهم إلى اشتراكيته، في حين يطردون النازحين، ويستدعون الطائرات، ويُطبّلون للمحاور المشبوهة، فهم ليسوا أبناء باذيب، بل أبناء “الجمعية العدنية” الجديدة، وإن ارتدوا قناع الثورة.
لكن التاريخ لا يرحم.
وإذا كانت مهمتهم استعمارية مُعادة، فإن فشلهم سيكون، كما كان فشل السابقين، أمرًا حتميًا.