مصطفى الفقيه
إن أخطر ما واجهته القضية الفلسطينية، عبر قرن كامل أو ما يزيد، هو محاولة تديين الصراع منذ بدايته، فعندما تتحدث الدول الإسلامية عن القدس يقولون إن الحرم المقدسي أولى القبلتين وثالث الحرمين، بينما الأَولى أن يقولوا أيضاً إن القدس أرض عربية احتلت في حرب يونيو (حزيران) 1967، مع التركيز على الجوانب السياسية لتلك الحقيقة، والتأكيد على التاريخ الموثق لأحقية أصحاب الأرض بها، وعلى الجانب الآخر بدأ الإسرائيليون ودعاة الصهيونية الأولى في الترويج لقصة وجود المسجد على أطلال “هيكل سليمان”، متناسين آلاف السنين التي تفصل بيننا وبين ذلك العهد، ولا توجد أدلة موثقة تؤكد مزاعمهم، حتى وصل التطرف ببعض غلاة السياسيين من اليمين الإسرائيلي بالدعوة إلى تفجير المسجد الأقصى وهدم قبة الصخرة، والخلاص من كل رموز الوجود الإسلامي بتاريخه الأصيل على أرض فلسطين.
أما المسيحيون فهم أصحاب حق تاريخي لا جدال فيه، إذ إن كنيسة المهد تشير بجلاء إلى قيامة السيد المسيح عليه السلام، فالعلاقة بين القدس والمسيحية لا تقل عن العلاقة بين الإسلام والقدس على الجانب الآخر، وصدقت فيروز حين صدحت بأغانيها الرائعة وصوتها الملائكي عن القدس وتاريخها العظيم ومكانتها الحقيقية، وأنا كعربي مسلم أرى أن في العالم المسيحي من دافعوا عن عروبة القدس حتى الرمق الأخير، بل إن عدداً كبيراً من قيادات الثورات الفلسطينية كانوا من مسيحيي الشام وفلسطين تحديداً، كما أن كثيراً من غلاة المسلمين قد تنكروا للقدس وأداروا ظهورهم لها خشية الكيان الإسرائيلي، ورغبة في ممالأة المحتل والمضي وراء ادعاءاته الكاذبة، ولذلك فإنني أقرر بوضوح أن القضية الفلسطينية قضية سياسية بالدرجة الأولى، قد يلحق بها بعض التفاسير الدينية أو المناسبات الروحية، مثل الإسراء والمعراج، ولكن ذلك لا ينهض دليلاً على عروبة تلك الأرض.
والسياق السياسي حاسم وقاطع في هذا الشأن أيضاً، فالأرض الطيبة التي التقت فوقها الأحداث التاريخية الكبرى ودارت حولها حروب الفرنجة قرابة قرنين من الزمن، هي نفسها الآن موطن الصراع ومركز الادعاء، حتى إن القائد الفرنسي الذي وصل إلى الشام مطلع القرن الـ 20 ذهب إلى قبر البطل الكردي المسلم صلاح الدين الأيوبي مخاطباً إياه بقوله “ها قد عدنا يا صلاح الدين”، فالنيات قديمة وخطاب الكراهية موجود ومتأصل، ولا يمكن القول إن الصراع العربي – الإسرائيلي أو المشكلة الفلسطينية هي ابنة اليوم سياسياً وفكرياً، بل هي قديمة ومكررة حتى ولو جرى صبغها بلون ديني وأسانيد تاريخية يصعب التأكد منها وقد يستحيل وقوعها، ولكن الجانب الروحي لدى أصحاب الديانات يضفي على تلك الأحداث قداسة دينية يضيع في زحامها الحق التاريخي، ولذلك فإن تديين الصراع يعطي للمغتصب حقوقاً ليست له، بل ويضفي أحياناً على وجوده شرعية زائفة لا مبرر لها، والصراع العربي – الإسرائيلي هو النموذج الأكبر والأوضح لهذه الحال من الضبابية التي تحيط أحياناً بالصراعات الدولية والمشكلات الإقليمية، ولنا هنا ملاحظات عدة.
أولاً، برعت الحركة الصهيونية منذ بدايتها في تأكيد وجودها من خلال استخدام الظروف الدولية في كل مرحلة، فقد تردد قادة الحركة على البلاط العثماني وعلى بلاط محمد علي، بل وبلاط الإمبراطور نابليون، محاولين في كل فترة إنجاح المخطط الصهيوني وتكريس فكرة الدولة اليهودية التي بشّر بها تيودور هرتزل نهاية القرن الـ 19، وزرعت الحركة أعواناً ومناصرين، يهوداً وغير يهود، في أركان الدنيا الأربعة، كما استغلت في براعة تحسد عليها ظروف الحربين الأولى والثانية للخلاص منهما بتعاطف كبير مع الدولة اليهودية المطلوبة، واستعانت الحركة برموز دولية والتزامات موثقة، لعل أبرزها وأهمها وعد وزير خارجية بريطانيا بلفور في الثاني من نوفمبر (تشرين الثاني) 1917، الذي أكد فيه تعاطف المملكة المتحدة، صاحبة الانتداب على فلسطين، مع الدولة اليهودية ودعم المشروع الصهيوني بصورة عملية وواضحة.
ثانياً، ارتكزت الحركة الصهيونية على قوى إقليمية ودولية لإنجاح مخططها الصهيوني خلال قرن ونصف القرن في الأقل، وتمكنت من استخدام جرائم الـ “هولوكوست” التي مارسها النازي لتخرج منها بتعاطف دولي كبير، فقد كانت هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، والتي حسبها النازيون الجدد على الوجود اليهودي في أوروبا، قد تحولت إلى أيقونة تعامل بها اليهود في استثمار واضح لذلك الحدث الذي لا يتحمل مسؤوليته إلا الأوروبيون أنفسهم، وربما الألمان تحديداً، ولكن المسألة تحولت إلى عقدة ذنب صدرتها الدوائر اليهودية إلى الشعب الفلسطيني خصوصاً بل وإلى العالم العربي والإسلامي عموماً، ولعلنا نتذكر التصريح الأخير لبنيامين نتنياهو مخاطباً الرئيس الأميركي دونالد ترمب بقوله “إن الحضارة المسيحية اليهودية تواجه التطرف الإسلامي”، وهو بذلك التحديد المعيب يخلق صراعاً وهمياً يستخدمه لتحقيق أهداف الدولة العبرية أو الدولة اليهودية إذا جاز التعبير.
ثالثاً، لقد ابتلع المسلمون عموماً والعرب خصوصاً بعض المقولات التي جاءت في الإٍسرائيليات من دون سند تاريخي مؤكد، فتطاول اليهود على جميع الرموز في المنطقة العربية ليجعلوا منها نتاجاً لتاريخهم الحافل بالادعاءات والأكاذيب، وتحولت المسألة اليهودية بقدرة قادر، كما يقولون، إلى مسألة فلسطينية، وانتقلت المعاناة التاريخية التي جسدها اليهود بعد الحرب العالمية الثانية إلى معاناة فلسطينية فاقت حدود التصور، وصنعت إحساساً حقيقياً لدى العرب بالذنب الموهوم، وكرست الادعاء الخاطئ بأنهم وراء شتات اليهود وما جرى لهم منذ الحرب العالمية الثانية، على رغم أن العرب والفلسطينيين تحديداً هم أكبر ضحاياها.
رابعاً، تمكّن اليهود من تطويع الحجج واختلاق القصص التاريخية للادعاء بحقوق وهمية في موقع المسجد الأقصى وقلب مدينة القدس التي يعرفون قدر قداستها وأهميتها لدى مئات الملايين من المسلمين والمسيحيين، ولم يتوقفوا أبداً عن تأكيد حقوقهم المزعومة في أرض الميعاد، بل زاد الأمر سوءاً تلك الادعاءات الكاذبة بأنهم بناة الأهرام في مصر، وأنهم صانعوا الحضارات السابقة على الإسلام في المنطقة العربية، ولعل أخطر ما طرحته الحركة الصهيونية هو ذلك التداخل المريب بين الحجج الدينية التي يرفعونها، ومنطق الإيمان الروحي لدى صناع الحضارة العربية الإسلامية من المسلمين والمسيحيين والأقليات اليهودية المعتدلة قبل ميلاد الحركة الصهيونية، وهم أولئك الذين عاشوا في سلام وتجانس مع باقي العرب، بدءاً من الأندلس ومروراً بالمغرب وشمال أفريقيا، في تأكيد واضح للقبول العام لأصحاب الديانة الموسوية من دون غضاضة أو كراهية، فالذي صنع خطاب الكراهية الحقيقي هم اليهود من بناة الحركة الصهيونية بالدرجة الأولى، وكان ظهور الولايات المتحدة كقوة عظمى اقتحمت الساحة الدولية في شرق الأطلنطي، بعد إعلان “مبادئ ولسون” الشهيرة عام 1919، إذ تأكد للجميع وقتها أن واشنطن ستكون قلعة الحريات والديمقراطية الحقيقة والعدالة الدولية، ولكن الذي حدث هو العكس تقريباً.
خامساً، إن مستقبل الصراع العربي – الإسرائيلي والصدام المباشر في الشرق الأوسط يعطي بما لا يدع مجالاً للشك إحساساً مؤكداً أنه صراع حضاري ثقافي، ولا أريد أن أتورط وأقول إنه لا يخلو من صبغة دينية، يرفعها الجانب الآخر شعاراً خادعاً ضد كل قوى العدل في العالم ومناصري الشرعية التي داست عليها إسرائيل في كل المناسبات، بدعم من الولايات المتحدة وحق الـ “فيتو” الذي يراد به باطلاً في معظم الحالات.
إننا أمام معادلة صعبة وظروف معقدة، إذ تمر القضية الفلسطينية بمنعطف خطر وفي ظل ظروف دولية ضاغطة تلقي فيها الإدارة الأميركية الجديدة بكل ثقلها دعماً لأي مطلب إسرائيلي أو ادعاء صهيوني، ولن يتحقق السلام في الشرق الأوسط إلا بنظرة جديدة تتسم بالعدل والموضوعية وتبتعد من الانحياز، وتنبذ خطاب الكراهية الذي تروج له إسرائيل في كل المناسبات.
نقلا عن اندبندنت