عماد عبد الحافظ
كاتب مصري
التاريخ الإنساني هو تاريخ من الصراع، وعلى الرغم من مظاهر التعاون والتعايش، إلا أنّ الصراع يُعدّ أساسيًا في حياة البشر، الذي تتعدد أسبابه ودوافعه، ويمثل الدين عنصرًا رئيسيًا في كثير من الصراعات التي شهدتها البشرية قديمًا وحديثًا، فكثير من الصراعات والحروب رفع أطرافها شعارات دينية، وأعلنوا أنّ هدفهم تحقيق المراد الإلهي، أو وظفوا الدين كغطاء لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية من وراء الصراعات والحروب، وكم من بشر قُتلوا ومن دماء سُفكت باسم الإله، وما تزال!
وتكشف الحروب الدينية عن حقيقة مدهشة، حين ترى أنّ الدين الذي يدفع الناس نحو القتل والتدمير وسفك الدماء بلا رحمة، هو ذاته الذي يخفف عن الضحايا آلامهم ومعاناتهم الناتجة عن الحرب، ويقدم لهم الدواء الذي يسكن الآلام ويعين على الاستمرار في الحياة، برغم الآثار التي تركتها الحروب على الأجساد والنفوس وعلى مظاهر الحياة جميعًا.
كيف للدين أن يلعب أدوارًا متعددة ومتناقضة، وكيف يكون مصدرًا للخوف والطمأنينة في آنٍ واحد، وكيف يقدّم الداء والدواء معًا، وكيف يدفع فردًا نحو إيذاء آخر ويخفف عن الآخر جراحه وآلامه، وكيف يدفع القاتل نحو القتل ويعد المقتول بنعيم مؤجل؟ هل الأديان غير مؤهلة لإحداث التعايش بين البشر، أم البشر هم من أساؤوا فهمها فتصارعوا وهم يظنون أنّهم ينفذون مشيئة الإله؟
الحروب الدينية بين الماضي والحاضر
الأمثلة من التاريخ والواقع كثيرة حول حروب قامت لأسباب دينية أو كان الدين دافعًا رئيسيًا فيها، أو تم توظيفه كأداة للتعبئة ومنح الصراع قوة وقدرة على حشد الطاقات من أجله، فما يُعرف في التاريخ بالحروب الصليبية كان الدين حاضرًا خلفها بجانب أسباب ودوافع سياسية واقتصادية أخرى، حيث كان الاستيلاء على مدينة القدس وإقامة مملكة صليبية هناك هدفًا رئيسيًا لتلك الحروب، وكانت تُرفع الصلبان على دروع الجنود وتُرسم على ملابسهم، وكانت الحرب التي سُميت بحرب الثلاثين عامًا التي وقعت في أوروبا بين عامي 1618 و 1648 وأدّت إلى الكثير من الخسائر المادية والبشرية، كان الدافع الأساسي وراءها دينيًا بسبب الخلافات الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت على إثر الإصلاح الديني الذي قاده مارتن لوثر خلال القرن السادس عشر ونشأ عنه المذهب البروتستانتي.
وفي العصر الحديث كان الدين حاضرًا في كثير من الصراعات والحروب، فالحرب التي قادتها الولايات المتحدة الأمريكية ضد الإرهاب، والتي انتهت باحتلال العراق وأفغانستان، كان الدين عنصرًا أساسيًا فيها، فقد كان الهجوم الذي نفذه تنظيم القاعدة داخل الولايات المتحدة في العام 2001 واستهدف فيه برجي مركز التجارة العالمي ومبنى وزارة الدفاع، كان الدافع الديني يقف وراءه بقوة، حيث ترى التنظيمات الجهادية، ومنها تنظيم القاعدة، أنّ أمريكا تحارب الإسلام وتدعم إسرائيل في صراعها ضد المسلمين، كما كانت الدوافع والشعارات الدينية حاضرة في الخطاب الرسمي للولايات المتحدة أثناء الحرب، ومنها التصريح الصحفي الذي أدلى به جورج بوش الابن في العام 2001 واصفًا الحرب التي تستهدف التنظيمات الجهادية حين قال: “هذه الحملة الصليبية، هذه الحرب على الإرهاب، ستستغرق وقتًا”، كما كانت الحرب الأهلية بين السنّة والشيعة في العراق بعد الاحتلال الأمريكي قائمة على أساس ديني بسبب الاختلاف الكبير في العقيدة الدينية بين السنّة والشيعة، أيضًا كان الدين حاضرًا في الصراع السنّي الشيعي في سوريا بعد الربيع العربي، حيث كان الصراع بين نظام الأسد الذي ينتمي رئيسه وجزء منه إلى الطائفة العلوية الشيعية والمدعوم من إيران بصفتها أكبر دولة شيعية في العالم الإسلامي، وبين المعارضة والحركات الإسلامية المنتمية إلى المذهب السنّي، وقد تحول الوضع بعد سقوط نظام الأسد من اضطهاد شيعي تجاه السنّة إلى اضطهاد سنّي تجاه الطائفة العلوية، وتمّ ممارسة العديد من أعمال العنف تجاهها بسبب الانتماء الديني، أيضًا كان للدين دور في بعض الصراعات التي حدثت في مصر بعد الربيع العربي، ومنها ممارسات العنف التي تم تنفيذها ضد الشيعة في مصر من قتل لأحد الرموز الشيعية وهو الشيخ حسن شحاتة وبعض رفاقه وسحلهم وحرق منازلهم، وكان ذلك نتيجة تأثر العامة بخطاب سلفي محرض ضد الشيعة في ذلك الوقت، ومن الأمثلة كذلك العنف الذي مارسته داعش ضد الإيزيديين في العراق ومذبحة سنجار التي نفذتها ضدهم في العام 2014 والذي كان نتيجة أسباب ودوافع دينية.
الحرب الأهلية بين السنّة والشيعة في العراق، كانت قائمة على أساس ديني بسبب الاختلاف الكبير في العقيدة الدينية بين السنّة والشيعة
الحرب الأهلية بين السنّة والشيعة في العراق، كانت قائمة على أساس ديني بسبب الاختلاف الكبير في العقيدة الدينية بين السنّة والشيعة
ومن أبرز الأمثلة على الصراع الديني في التاريخ المعاصر الصراع العربي الإسرائيلي، حيث يظهر تأثير الدين بوضوح في دوافع الصراع وأهدافه، ورغم ما يمكن أن يقال بشأن الدوافع والأهداف الأخرى السياسية والاقتصادية سواء منذ مساعدة بريطانيا في إنشاء دولة يهودية في فلسطين، أو في الدعم الغربي لإسرائيل حتى اليوم، لكنّ الدين يظل حاضرًا لدى كل الأطراف، سواء لدى إسرائيل أو أمريكا أو المسلمين، وله تأثير كبير في إشعال الصراع واستمراره، فرغم وجود مبرر براجماتي لإنشاء دولة قومية لليهود متمثلًا في رغبة اليهود في التخلص من الاضطهاد الذي تعرضوا له في أوروبا لسنوات طويلة، وفي رغبة أوروبا في التخلص من اليهود لأسباب سياسية واقتصادية، ومن ثم كان البحث والدعم لإنشاء وطن قومي لليهود خارج أوروبا؛ إلا أنّ اختيار أرض فلسطين كان لأسباب دينية يوضحها الدكتور منذر إسحق راعي كنيسة الميلاد الإنجيلية في بيت لحم، وذلك في لقاء له على موقع (يوتيوب)، حيث يرى أنّ فلسطين تمثل بالنسبة إلى اليهود أرض الميعاد التي وعدهم الربّ بها في التوراة، فوفق بعض التفسيرات اليهودية للعهد القديم وما جاء به ممّا يُسمّى بـ “العهد الإبراهيمي” هو الذي تقوم عليه إسرائيل، ووفقًا لهذا التفسير يجد اليهود حقًا لهم في فلسطين وفي غيرها من بعض الدول العربية، والعهد الإبراهيمي كما جاء في العهد القديم يقول: “أبارك مباركيك، ولاعنك ألعنه، في نسلك تتبارك جميع قبائل الأرض، ولك أعطي هذه الأرض وما فيها ميراثًا أبديًا، في ذلك اليوم قطع الربّ مع أبرام الميثاق قائلًا: لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير، نهر الفرات”، كما أنّه من وجهة نظر يهودية فإنّ العودة إلى فلسطين تمثل الخطوة السابقة أو الشرط لظهور المسيح المخلّص، وإن كان هناك تفسير آخر للنص الديني داخل الديانة اليهودية بأنّ تلك العودة لاحقة لظهور المسيح، ومن جانب آخر فإنّ دعم الولايات المتحدة لإسرائيل في سياستها الاستعمارية تجاه العالم العربي وممارساتها القمعية تجاه الشعب الفلسطيني يقوم على أساس ديني بجانب أسباب وأهداف أخرى، وهناك تيار يُسمّى بـ “الصهيونية المسيحية” في الولايات المتحدة يدعم وجود وطن قومي لليهود في فلسطين، وقد نشأ هذا التيار منذ القرن السابع عشر، وظهر في أوروبا إحياء لفكرة دراسة الكتاب المقدس ممثلًا في العهد القديم، ومن خلال تلك الدراسة وتفسير النص الديني تكوّن يقين لدى بعض المذاهب المسيحية في الغرب بأنّ اليهود سوف يدخلون المسيحية ويؤمنون بالمسيح بشرط عودتهم إلى فلسطين وإقامة دولة لهم هناك، وأنّ ذلك سيعقبه عودة المسيح مرة أخرى، وقد كان من أسباب الاضطهاد المسيحي لليهود في أوروبا قبل ذلك هو نظرتهم إليهم بأنّهم السبب في مقتل المسيح، لكنّ ذلك التفسير جعلهم يدعمون اليهود أملًا في إيمانهم بالمسيح، ولذلك هناك رغبة لدى الصهيونية المسيحية في الغرب لإثبات صحة ما ورد في الكتاب المقدس بشأن عودة المسيح، ولذا يتم دعم إسرائيل بقوة. ومن الجانب العربي يقوم الصراع مع إسرائيل على أساس ديني، حيث وفقًا للنص الديني فإنّ الصراع حتمي مع اليهود، والسبب الرئيس خلف اهتمام المسلمين بقضية فلسطين هو وجود المسجد الأقصى بها.
الهوية… بين الأنا والآخر
الإنسان بحاجة إلى الدين بشكل عام، بحاجة إلى من يقدم له إجابات عن أسئلة تمثل له قلقًا وجوديًا، وإلى من يقدم له تفسيرًا لما يحدث في الحياة، ويقدم له تفسيرًا لموته وانتهاء وجوده بشكل نهائي ويعطيه أملًا في حياة أخرى تمثل تعويضًا له عمّا حرمته منه الحياة وعن معاناته فيها، بحاجة إلى أن يشعر بمعنى لوجوده، وإلى قوة عليا يشعر معها بالاطمئنان تجاه كل ما يخاف منه.
وقبل الأديان لجأ الإنسان إلى العديد من تلك القوى التي تخيل أنّها تتحكم في الكون أو في بعض الظواهر الطبيعية، فتخيل أنّ هناك إلهًا للمطر وآخر للموت وآخر للخصوبة وآخر للحكمة وآخر للحب والجمال وللبحر والزلازل…إلخ، لجأ الإنسان إلى تلك القوى وتخيل الآلهة نتيجة خوفه من المجهول ومن الكائنات الأقوى منه، ومن أجل تفسير حياته وموته، ومن أجل إشباع غريزة البقاء التي تسيطر عليه من خلال الإيمان بالحياة الأخرى بعد الموت.
يقول الدكتور عبد الجبار الرفاعي في كتابه: الدين والظمأ الأنطولوجي: “يفسر لنا الدين ألغاز هذا العالم، المليء بالألغاز وكل ما هو غير مفهوم، ما هو غير مفهوم يجعله الدين مفهومًا، وما لا معنى له يضع الدين له معنى، ليس بوسع الإنسان أن يعيش في عالم كله مجاهيل وألغاز غامضة، عالم مبهم غريب مظلم، عالم لا يعرف عنه شيئًا، ذلك سيقوده إلى الخوف والرعب، وربما إلى الجنون”.
من هنا تأتي أهمية الدين للإنسان، ومكانته في المجتمع وقدرته على التأثير في الحياة بشكل كبير، حتى وإن لم ينعكس ذلك التأثير على سلوك الإنسان وتحول إلى مظاهر للتدين، ولكن يظل الدين محددًا لتصورات الإنسان وقناعاته ومكوّنًا رئيسيًا من مكونات هويته.
وعلى الرغم من أنّ كل فرد له عدد من الانتماءات التي تجعله يحمل هويات متعددة، فكل منا ينتمي إلى طبقة اجتماعية معينة ومهنة ويعيش في وطن معين وينتمي إلى ثقافة ما، إلا أنّ الهوية الدينية تعتبر أقوى تلك الهويات التي ينتمي إليها وتؤثر في أفكاره وتصوراته واختياراته، والهوية كما يعرفها رشاد الشامي في كتابه: إشكالية اليهودية في إسرائيل هي “الشفرة التي يمكن للفرد عن طريقها أن يعرف نفسه في علاقته بالجماعة الاجتماعية التي ينتمي إليها، والتي عن طريقها يتعرف عليه الآخرون منتميًا إليها”، وتبدأ المشكلة حين يرى أصحاب كل دين أو مذهب أو طائفة أو جماعة أنّ هويتهم متفردة ومميزة عن باقي الهويات الدينية الأخرى.
والهوية كمفهوم من الممكن أن تقدم لنا تفسيرًا بخصوص العلاقة بين الدين والصراع، وكيف يمكن للدين أن يكون سببًا في إشعال الصراعات والحروب؛ فالهوية تخلق نوعين من التصورات: “الأنا” و “الآخر”، فكل دين يخلق لدى المؤمنين به مجموعة من المعتقدات والأفكار والتصورات يرى أصحابها أنّها الحقيقة المطلقة، وهنا تتشكل “الأنا”، وذلك في مقابل “الآخر” الذي يحمل أيّ أفكار ومعتقدات أخرى مختلفة، فالجميع هنا يُعدّ آخر في نظر غيره من أصحاب الهويات المغلقة الأخرى، والصراع يبدأ حين يرى أصحاب الهوية أنّ هويتهم لها حق السيادة والهيمنة على الهويات الأخرى، فكل مجموعة تنتمي إلى دين أو طائفة ترى أنّ أفكارها وتصوراتها هي الأصح والأقرب للفهم الصحيح للنص الديني وتعبّر عن مراد الإله الحقيقي، فتتعدد الآلهة بتعدد الأفهام وتعدد صور الإله الواحد، وتنشأ الصراعات تبعًا لذلك، فالهوية المنغلقة هنا تعمل بأشكال مختلفة وتؤدي وظائف متناقضة، فالهوية كما يصفها “أمارتيا صن” في كتابه: العنف والهوية ممكن أن تكون مصدرًا للفخر والبهجة وللثقة والقوة، وأداة للتضامن بين أصحاب الهوية المشتركة، وفي الوقت نفسه يمكن أن تكون مصدرًا للعنف والقتل تجاه أصحاب الهويات الأخرى، فبقدر الشعور بالانتماء لهوية ما والفخر بها والانغلاق عليها، واعتبارها الأحق بالسيادة، والشعور بالتضامن مع المنتمين لها، بقدر الشعور بالاختلاف والتمايز عن أصحاب الهويات الأخرى ورفضهم والصراع معهم.
والأمر الآخر الذي يجعل الدين سببًا للصراع هو تلك النصوص الدينية الموجودة في الديانات الإبراهيمية الثلاث المتعلقة بأحداث نهاية العالم، حيث تتفق تلك النصوص على أنّ ثمة صراعات وحروبًا سوف تحدث في نهاية الزمان بين أصحاب تلك الديانات، لكنّها تختلف في نتائج تلك الحروب، فكل منهم يرى أنّه هو الذي سوف ينتصر في النهاية، ومن ثم تساهم تلك النصوص في ترسيخ الاعتقاد بأنّ الصراع أمر حتمي، وأنّ مسار التاريخ يسير في اتجاه تصاعد ذلك الصراع، ممّا يتسبب في تزايد الصراعات والحروب على أساس ديني باعتبارها صراعات مقدسة.
خاتمة
في الوقت نفسه الذي من الممكن أن يكون الدين فيه سببًا ودافعًا نحو الصراع وإشعال الحروب، يمكن أيضًا أن يكون الدين هو الملاذ الذي يلجأ إليه الأفراد بحثًا عن تفسير لما يحدث، وعن مصدر للأمن والطمأنينة تجاه الخوف الذي تسببه الحروب في النفوس، الدين هنا يلعب أدوارًا متنوعة وربما متناقضة، ويؤدي وظائف مختلفة في حياة البشر، تتوقف على ما يريده البشر منه، إن أرادوا سلامًا فسيجدونه فيه، وإن أرادوا صراعًا فسيجدونه، وإن أرادوا حبًّا أو أرادوا بغضًا فسيجدونه كذلك، وتظل المشكلة كامنة في الإنسان الذي يوظف الدين ويفسر نصوصه حسب ميوله وأهدافه وطبيعته التي تحمل الخير والشر معّا.
المصدر : حفريات