صبحي نايل
لكل فكر نمط يعمل من خلاله ومنطلقات ينطلق منها ودوافع تدفعه نحو تبني هذا الفكر وترجمته إلى عمل ملموس، وللعقل الجهادي أثار ملموسة يعاني منها العالم كل يوم، فالعمليات الإرهابية تملأ كل ركن في العالم اليوم، وثمة بلادٍ تمزق وتشتت بسبب الجماعات الجهادية والإسلاموية.
وللعقل الجهادي آليات يعمل من خلالها؛ ليفرض موقفه العنيف بوصفه موقفاً دينياً، ويقدم فعله العنيف بوصفه أمر رباني. في حين أن غايته في الأخير السلطة ومقاليد الحكم، ولا يجد في الدين غير ذريعة للوصول للسلطة.
التماهي مع الله
يمثل القرآن للوهلة الأولى منطلقاً للجماعات الجهادية، لكنه على المستوى الواقعي، يعد أداة أيديولوجية تمكنه من محاولات فرض رؤيته؛ وذلك من خلال التماهي مع الله وأنبيائه أو مع صحابة النبي محمد ﷺ، وعرض رؤيته كفرض إلهي أو رؤية نبوية لا تنفك هي الأخرى بأن تكون فرضاً إلهياً.
فالجهاد يستمد مشروعيته من فرض الدفاع عما ورد في القرآن على أنه “دين الحق”، وما قدمه الفقهاء على أنه صحيح الدين، دون الانتباه إلى أن هذه العقائد بنيت داخل إطار زمني إنساني من قبل “علماء مرتشين”، أو “حكام إمبرياليين”.
واعتادت الجماعات الجهادية استنطاق النص بأيديولجيتهم ويتخفون وراءه ويتحدثون من خلاله، بوصفهم المالكين لتأويله وقصديته، فلا مجال للحديث عن تأويل بشري للنص، بل يعرض بوصفه مطابقاً للمراد الإلهي من النص، مما ينتج عملية تماهي مع النص ومن ثم الدين والله، وعليه تكون وصايتهم على البشر أمراً بديهياً بوصفهم متجاوزين الحد الإنساني ومتعالين عليه.
ولا تقبل آراؤهم المجادلة والمناقشة، بصفتهم متحدثين باسم النص القرآني؛ المقروء من قبل جميع المسلمين من خلال آلية الإيمان المسَلم به والبديهي الذي لا نقاش ولا جدال.
هذا فضلاً عن التعالي بمقولات الصحابة والتابعين على السياق الاجتماعي والسياسي، ومن ثم الأنثروبولوجي، والتعامل معها كحقائق إلهية مطلقة، وإعلان الجماعات الجهادية نفسها كوكيل حصري للصحابة والسلف، ومن ثم يملكون نوعاً من القدسية يعطيهم الحق في التوجيه والزجر.
ويأتي هذا بشكل صريح داخل ميثاق العمل الإسلامي وردّهم على اتهامهم بالوصاية على البشر.
“يقولون: هذه وصاية منكم على البشرية؟!
نقول: هذه وصاية شرع الله ودينه على أرض الله وخلقه، ونحن مأمورون بتحقيقها لصالح البشرية بوصفنا خير أمة أخرجت للناس”.
التكفير جاهلية العصر
الرأي الشائع الذي تتبناه الجماعات الجهادية هو أن علة الجهاد هي الكفر؛ يعني أنه يكفي أن تكون كافراً كي نجاهدك، وثمة رأي آخر يرى أن علة الجهاد هي الاعتداء؛ أي أنك تجاهد من اعتدى عليك فقط، وأصحاب هذا الرأي هم سفيان الثوري، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الحسين، وابن شبرمة، وعطاء ابن رباح، إلا أنه قُدم على أنه هامشي، فنال حظه من التعتيم.
في المقابل نال الرأي الآخر حظه من الاستحسان والترسيخ.
وتم الاستقرار داخل الجماعات الجهادية على أن “الكفر علة الجهاد” ويسوقون مجموع من الآيات التي تحث على القتال بشكل انتقائي متغاضين عن آيات التسامح والعفو.
{وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة} [التوبة: 36]، {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد} [التوبة: 5]، {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} [التوبة: 29]، وتعد بمنزلة مبررات القتال في الإسلام.
تبعاً لاكتساب الجماعات الجهادية قدسية إلهية تبيح لها التعالي على الإطار البشري، فإن الاختلاف معها يمثل اختلافاً مع الدين والله، وتمثل هي الحق والإيمان في مقابل الكفر.
وانطلاقاً من عقيدة الولاء والبراء، فإن ولاة الجماعة هم المؤمنون، وغير المولين لها هم الكافرون، ممثلو الجاهلية الثانية، وها هو محمود غزلان عضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمون يقول: “يا أهل مصر: لقد أتيناكم لننقذكم من الجاهلية والكفر وعصور الظلام التي كنتم تعيشون فيها”.
وتقرر الجماعات الجهادية أن حكم الإسلام في هذه الأنظمة، والحكومات، واضح، وصريح. إنها كافرة وجاهلية وساقطة الشرعية، ووجودها غير جائز وكذلك استمرارها، وإزالتها واجب وفرض ديني، فقد آن لها أن تذهب وتعود من حيث أتت وتمضي غير مأسوف عليها، لتعود الخلافة والريادة من جديد، فآن لها أن تعود لتسترد مكانتها وأراضيها، وأهلها وذويها الذين انتزعت منهم وانتزعوا منها، تعود لتقيم الدين وتحرسه وتسوس الدنيا به.
وعليه ينقسم العالم إلى دار سلام، وهي الجماعة بكل تأكيد، ودار حرب، وهي التي تحكم بغير ما أنزل الله. وأهل هداية يعملون على إصلاح أهل الجاهلية، وليس أدلّ على ذلك مما ذكر في وثيقة العمل الإسلامي” لقد أكثرنا القول، ولا بأس من أن نكرر؛ أن الخلق عبيد الله والأرض ملك لله، ومن ثم فإن الخلق كلهم مطالبون بالدخول في دين الله، والأرض كلها من المفروض أن تخضع لسلطان هذا الدين”.
التقويم
عادة ما يؤدي التقويم وظيفة مهمة، وهي خلق القناعة بالأمور وتبرير المواقف، ومن ثم إضعاف التوتر بين الإنسان وعالمه، خاصة إذا كان يشعر بالاغتراب وعدم الانتماء، والدونية تجاه هذا العالم، كما أنه يمثل تحقيقاً للذات المهمشة والمنهزمة، حيث إنها تمكنها من الشعور بامتلاك العالم وفرض معايرها الخاصة كقوانين طبيعية، وعليها تقاس الأشياء والأمور تبعاً لرؤيتها. ويأتي التقويم كأحد آليات الذات المهمشة تبعاً لإعطاء نفسها حق الوصاية، ومن ثم تكون هي الموكلة بالتقويم والتعديل.
وفقاً لنسبة الجماعات الإسلامية نفسها إلى تعاليم القرآن والنبي ﷺ وادعاء المسؤولية العليا في حماية هذه التعاليم؛ فالفرقة المتحدَثة تعد عند الموالين لها طبقاً لإرادة الله وتنفيذ أوامره، وتمثل كياناً مكتملاً، يوكل إليه الله وظيفة إحقاق حقوق الله على الأرض، وإقامة الدين، المتمثل في رؤيتها الأحادية له، وبالتالي عليها قتال المخالفين (الكافرين برؤيتها)، بوصفها الممثل للمشروعية العليا والمقدسة ضد السلطات الشيطانية والمنحرفة.
وقد أعلنت هدفها بشكل صريح، وهو: إعادة الفلول الشاردة الآبقة الضالة عن صراطه المستقيم إلى فطرتها التي فطرت عليها وردها إلى رشدها، وهو ما تعنيه بقولها: (تعبيد الناس لربهم)، تعبيد الناس لربهم في عقائدهم وشرائعهم وأخلاقياتهم ومعاملاتهم وتحاكمهم وتقاليدهم.
وتحمل جملة “تعبيد الناس لربهم” تقويماً صريحاً، حيث إنهم عاجزون عن اختيار العبادة، ولابد من قوة خارجية تعمل على تعبيدهم لربهم وردهم إليه، تبعاً لقصورهم العقلي. وتتمثل الحضارة في قاعدة “تعبيد الناس لربهم”؛ فهي غير مرتبطة بأي نوع من أنواع الإبداع المادي أو المعرفي، بقدر ارتباطها بإخضاع العالم للمنهج والدين الإلهيين، والجماعات الجهادية التي تدخل معهم في حالة تمثيل تصل إلى حد التماهي.
الجهاد / فرض الذات المتخيلة
وتحمل الجماعات الجهادية رؤية حول ذاتٍ إسلامية متخيلة؛ غير موجودة على أرض الواقع أو حتى في التاريخ، ذات مثالية لا تعرف أي وجه من الفشل والنقصان، وعدم واقعيتها يجعلها أقرب لمثل أفلاطون، غير موجودة على الأرض وغير قابلة للوجود، لأنها لا تراعي النسبية الإنسانية والنقصان الإنساني.
ولما كانت الذات المتخيلة –التي تتبناها الجماعات الجهادية– عاجزة عن التمثيل الواقعي، ولا تتعدى منجزاتها الواقعية العدد صفر، أصبح قبولها وذيوعها ضرباً من الخيال أيضاً، فهي لا تمثل أي تحقيق واقعي للذات الفردية أو الجماعية. فعز على الجماعات الجهادية وجود آلية أخرى لفرض الذات المتخيلة على الواقع غير العنف، -فحسب معجم جميل صليبا كلّ فعل يخالف طبيعة الشيء ويكون مفروضاً عليه، من خارج فهو بمعنى ما فعل عنيف- فسعت إلى التطابق بين مفهوم الجهاد والقتال، متغاضية عن التعريفات الأخرى التي ترى الجهاد جهاد النفس، كالصوفية وغيرها، خاصة وأنه يأتي متناغماً مع المفاهيم الفقهية التي تتبناها، والتاريخ المتخيل الذي يعمّر أذهانها.
وعلى حد قول محمد أركون يمثل الجهاد: “((الحرب العادلة)) لإخضاع المجتمعات داخل نظام للحقيقة، مؤسس لكل المشروعيات”؛ فالحديث اليوم عن الجهاد كفريضة غائبة، لا يكون عن الجهاد كآلية دفاعية لحماية المعتقد، بل إنه يتجاوزها إلى الجهاد بوصفه وسيلةً تبشيرية، يتمكن الإسلام من خلالها الوصول إلى القيادة، التي كانت له دوماً وفقاً لزعم منظري الجماعات الجهادية.
في حال أن يكون الجهاد هو الفريضة الغائبة أثناء انهزام المجتمعات الإسلامية وضياعها وتشتتها، يمثل الجهاد إعادة الاعتبار للذات الإسلامية التي فقدت شرعية السلطة والندية أمام الدول الأخرى. وعليه يغدو الجهاد الشأن الدائم –من حيث هو تحقيق للذات- لا موقفاً عرضياً، حيث إنه يمثل أحد وسائل فرض الذات المتخيلة (الحق)، على العالم (الباطل)، ولا يمكن للاثنين أن يعيشا جنباً إلى جنب.
والجهاد عندهم مهمة الأمة الإسلامية حتى قيام الساعة؛ فحتى إذا انتصرت الجماعات الجهادية، ومن ثم انتصر معها الإسلام والله التي تدخل معهم في حالة تماهٍ، ما كان للغرب المغتصب أن يترك الأمر على حاله ورمى الإسلام وتربص له، وسعى إلى هدمه ومحاربته، وعلى الجماعة الجهاد دفاعاً عن دينها.
ويتقدم الجهاد ضد الكافر المرتد على الكافر الأصيل، وهذا ما يدفعهم إلى تصويب العنف نحو الحكومات والشعوب العربية الإسلامية.
ومنع مؤسسات الدولة من ممارسة أعمالها، وثمة شبه اتفاق على الوصول إلى الحكم، بأي وسيلة، حتى وإن كانت قتل الأبرياء.
ولا يمثل القتل هدفاً في ذاته، بل هو وسيلة للوصول إلى الحكم، فالهدف ليس المقتولين، بقدر ما هو زعزعة الثقة بالنظام الأمني وإظهار القوة للمخالفين، حتى يذعنوا إلى حكمهم.
ولا يظن من هذا أن الجهاد يقف عند حدود الدول العربية/ الإسلامية، بل إن ميثاق العمل الإسلامي ينص على “إننا كمسلمين مأمورون بتحقيق سيادة شرع الله على أرض الله وعلى خلق الله.
إننا كمسلمين مأمورون ألا ندع أي طائفة على وجه الأرض تحكم الناس بغير شرع الله. فمن أبى ذلك ورفض الإذعان قاتلناه”.
نقلاً عن “الحل نت”















