كريتر نت – متابعات
تراهن الصين على رقائق محلية مفتوحة المصدر مع تزايد القيود الأميركية، في تصعيد بين أقوى اقتصادين في العالم، والذي يقول خبراء إنه يغذي الحرب التجارية القائمة، وربما يقلب التعاون العالمي في صناعة التكنولوجيا العابرة للحدود رأسا على عقب.
وقدم معهد عسكري صيني عندما نشر في سبتمبر الماضي براءة اختراع لشريحة جديدة عالية الأداء، لمحة عن مساعي بكين لإعادة تشكيل سوق الرقائق العالمية التي تبلغ قيمتها نصف تريليون دولار والصمود في وجه العقوبات الأميركية.
ويظهر طلب براءة الاختراع أن أكاديمية العلوم العسكرية التابعة لجيش التحرير الشعبي استخدمت معيارا مفتوح المصدر يُعرف باسم “ريسك 5” لتقليل الأعطال في رقائق الحوسبة السحابية والسيارات الذكية.
وهذه التقنية عبارة عن بنية مجموعة تعليمات، وهي لغة كمبيوتر تستخدم لتصميم أي شيء بدءا من شرائح الهواتف الذكية، وحتى المعالجات المتقدمة للذكاء الاصطناعي.
وتسيطر الشركات الغربية على المعايير الأكثر شيوعا، وهي إكس 86، التي تنتجها شركتا إنتل وأدفانسيد ميكرو ديفايسز الأميركيتان، وأيضا رقاقة آرم البريطانية، المملوكة لمجموعة سوفت بنك.
وتمنع ضوابط التصدير في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بيع تصميمات إكس 86 وآرم الأكثر تقدما فقط، والتي تنتج الرقائق عالية الأداء للزبائن في الصين.
ولكن مع قيام الولايات المتحدة بتوسيع القيود على وصول الصين إلى أشباه الموصلات المتقدمة ومعدات صنع الرقائق، فإن طبيعة ريسك 5 جعلتها جزءا من خطة بكين للحد من اعتمادها على التكنولوجيا الغربية، رغم أن البنية الناشئة تمثل جزءا صغيرا من السوق.
ريتشارد واورزينياك: أداء ريسك 5 يتخلف عن آرم لكن الفجوة بينهما تتقلص
وفي أكتوبر الماضي، فتحت الحكومة الأميركية جبهة جديدة في حرب الرقائق مع الصينيين، والتي تستهدف ريسك 5، في منعطف آخر للحرب التكنولوجية بين القوتين الاقتصاديتين.
وقالت لجنة العلوم والتكنولوجيا التابعة لحكومة شنغهاي في تقرير نُشر في أبريل الماضي إن “أكبر ميزة لبنية ريسك 5 هي أنها محايدة من الناحية الجيوسياسية”.
واستثمرت بكين والعشرات من الهيئات الحكومية الصينية ومعاهد الأبحاث، التي فرضت واشنطن عقوبات على العديد منها، ما لا يقل عن 50 مليون دولار في مشاريع تتضمن ريسك 5 بين عامي 2018 و2023.
وتم الاستناد على هذا الرقم وفق مراجعة أجرتها وكالة رويترز لأكثر من 100 مقالة أكاديمية باللغة الصينية وبراءات اختراع ووثائق حكومية والمناقصات، وكذلك البيانات الصادرة عن المجموعات البحثية والشركات.
وفي حين أن هذا الرقم متواضع، إلا أن الاختراقات والتطبيقات الأخيرة لرقاقة ريسك 5، والتي تم تمويل العديد منها من الحكومة، أثارت آمال بكين في أن معيار المصدر المفتوح يمكن أن يهدد يوما ما الاحتكار الثنائي إكس 86 – آرم، وفقا لوسائل الإعلام الحكومية.
ويمكن لشرائح ريسك 5 التي تصنعها الشركات والمعاهد البحثية الصينية تشغيل السيارات ذاتية القيادة ونماذج الذكاء الاصطناعي، ومراكز تخزين البيانات، وفقا لشخصيتين في الصناعة والوثائق التي لم يتم الإبلاغ عنها سابقا.
وتعد إكس 86 وآرم شريحتين مغلقتين، مما يعني أنهما ملكية خاصة ويفرضان على المستخدمين رسوم ترخيص، وهي تحتوي على تعليمات معقدة والعديد من الإصدارات غير المتوافقة التي لا يمكن تعديلها إلا بواسطة مطوريها.
في المقابل فإن شريحة ريسك 5 مجانية الاستخدام ولها مخطط أبسط، ما يؤدي غالبا إلى شرائح أكثر كفاءة في استخدام الطاقة، ويمكن للمستخدمين البناء فوق الإطار ليناسب احتياجاتهم.
وذكرت صحيفة تشاينا ديلي التي تديرها الدولة في أغسطس الماضي أن نصف شرائح ريسك 5، التي يزيد عددها عن 10 مليارات والتي تم شحنها عالميا بحلول عام 2022 تم تصنيعها في الصين.
طبيعة ريسك 5 جعلتها جزءا من خطة بكين للحد من اعتمادها على التكنولوجيا الغربية
وقال باو يونغانغ، نائب مدير المعهد الصيني لتكنولوجيا الحوسبة، في مؤتمر للرقائق في يونيو الماضي، إن “تمويل الشركات الناشئة لريسك 5 في الصين قد وصل إلى 1.18 مليار دولار على الأقل” حتى تلك النقطة.
وأشار مندوب مبيعات من شركة مقرها بكين تعمل على تطوير رقائق ريسك 5 لرويترز والذي لم يكن مخولا بالتحدث علنا، إلى أن “النظام البيئي لهذه الشريحة هو الأكثر نضجا على مستوى العالم”.
وأكد أن ابتكار هذه الرقائق جاء نتيجة لحاجة الحكومة والصناعة لتطوير التكنولوجيا التي يمكنها التحايل على العقوبات الأميركية.
وتم نشر حوالي 1061 براءة اختراع تتعلق بريسك 5 في الصين العام الماضي، ارتفاعا من 10 في عام 2018، حسبما تظهر قاعدة بيانات آكليم آي.بي التابعة لشركة أناكوا.
وشهدت الولايات المتحدة زيادة مماثلة، فقد تم نشر 2508 براءات اختراع من هذا القبيل في الصين، مقابل تحو 2018 في الولايات المتحدة.
وكان عملاقا التكنولوجيا الصينيان علي بابا وهواوي، في المركزين الرابع والخامس من حيث أكبر مقدمي الطلبات.
وتشكل رقائق آرم البنية المهيمنة في الصين، لذا فإن ريسك 5 هو رهان طويل الأجل لتأمين بكين ضد السيناريو الذي تضطر فيه الشركة البريطانية ليس فقط إلى وقف الترخيص لشركة هواوي، كما فعلت مؤقتا في 2019، ولكن لجميع الشركات الصينية.
50 مليون دولار استثمرتها بكين في مشاريع تتضمن تقنية ريسك 5 بين عامي 2018 و2023
وقال ريتشارد واورزينياك، المحلل الرئيسي في مجموعة أس.أتش.دي، وهي شركة متخصصة لأبحاث السوق، “في حين أن أداء ريسك 5 يتخلف عن آرم في مهام الحوسبة المعقدة، فإن الفجوة تتقلص”.
وأوضح أن الشركات الناشئة التي تبتكر هذه الشرائح في الصين تتكاثر، كما أن شركات التكنولوجيا تستثمر المزيد في معيار المصادر المفتوحة.
وظهرت تقنية ريسك 5 في العقد الماضي في مختبرات بجامعة كاليفورنيا في بيركلي.
وبعد أشهر قليلة على إدراج إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب لهواوي في القائمة السوداء في مايو 2019، نقلت مؤسسة ريسك 5 إنترناشيونال، وهي مؤسسة غير ربحية تشرف على تطوير المعيار، مقرها الرئيسي من ديلاوير إلى سويسرا.
وقالت كاليستا ريدموند، الرئيس التنفيذي للمؤسسة، لرويترز إن هذه الخطوة لم تكن “للتحايل على أي قيود قانونية من قبل أي حكومة”، ولكن “لضمان استمرار نمو النظام البيئي للمعايير المفتوحة لسنوات قادمة”.
ومع ذلك، تقول المؤسسة على منصتها الإلكترونية إن الخطوة خففت من حالة عدم اليقين، فقد كان ثمة قلق من مجتمع ريسك 5 خلال عامي 2018 و2019 في ما يتعلق بالمشهد الجيوسياسي، دون ذكر الصين.
وذكرت رويترز في أكتوبر الماضي أن بعض المشرعين الأميركيين يحثون إدارة الرئيس جو بايدن على فرض قيود على التصدير حول ريسك 5، وهي خطوة قال ريدموند إنها “ستبطئ تطوير رقائق جديدة وأفضل”.
وبالنسبة للصين، كان هناك حافز جيوسياسي للاستثمار في المعيار الناشئ. وفي عام 2019، نظم باحثون في جامعة العلوم الإلكترونية والتكنولوجيا الصينية ندوة حول كيف يمكن لرقائق ريسك 5 أن تساعد الصين في تحقيق الاكتفاء الذاتي التكنولوجي.
ويقول ملخص الندوة المنشور على موقع الجامعة الإلكتروني “اتفق الجميع.. إذا أرادت أنظمة الرقائق المحلية التخلص من قيود معماريات إكس 86 وآرم وتحقيق صعود حقيقي إلى السلطة، فإن ريسك 5 ستكون أكبر فرصة”.
ومن بين الإنجازات الأخيرة في الصين، قامت شركة دونغفنغ موتور كوربوريشن المملوكة للدولة في العام الماضي بتطوير شريحة أم.سي.يو للسيارات، والتي تستخدم للتحكم في الأنظمة الإلكترونية للسيارة، باستخدام آر.آي.أس.سي – في.
ووجدت مراجعة رويترز أن الجامعات ومعاهد البحوث المرتبطة بالجيش الصيني قامت أيضا بتطوير وترويج ريسك 5 في السنوات الأخيرة.
وكانت جامعة تكنولوجيا الدفاع التي يديرها الجيش الصيني من بين أفضل 15 جامعة من حيث براءات اختراع ريسك 5 المودعة في البلاد منذ عام 2018، وفقا لآكليم آي.بي، وكذلك مختبر بينغ شينغ، الذي لديه شراكات مع معهدين على الأقل متعلقين بالدفاع.
وفي مؤتمر أكاديمي في نوفمبر 2022، قدم الباحثون في جامعة بيتشنغ، التي يشارك علماؤها في تطوير الطائرات والصواريخ العسكرية الصينية، تصميم شريحة ريسك 5 التي تعالج إشارات الرادار.
وفي العام السابق، شارك باحثون في معهد البرمجيات في الأكاديمية الصينية للعلوم (سي.أي.أس)، وهي مؤسسة بحثية حكومية، في تطوير الشريحة الصينية لمنع نوع من الهجمات الإلكترونية. والمعهد هو مورد للجيش الصيني، كما تظهر المناقصات الحكومية.
وكان معهد تكنولوجيا الحوسبة التابع لشركة سي.أي.أس، الخاضع للعقوبات الأميركية، قد كشف في مايو الماضي عن الجيل الثاني من إكتشنغشان، وهي شريحة كمبيوتر عالية الأداء من ريسك 5، وأيضا أوالي وهو نظام تشغيل يعتمد على هذه الرقائق المتقدمة.
ويعكس اهتمام المعاهد والجامعات الصينية، التي لم ترد على الاستفسارات، الاستثمار في مختبرات وشركات أبحاث ريسك 5 قبل عقد من الزمن من قبل وكالة مشاريع البحوث الدفاعية المتقدمة التابعة للحكومة الأميركية.
وقال متحدث باسم الوكالة “رغم أنها لم تمول بشكل مباشر تطوير بنية ريسك 5، إلا أنها مولت الجهود لإنشاء شرائح نموذجية واختبار فرضيات البحث لصالح الأمن القومي الأميركي”.
وعلى الرغم من وعده، لم تكسر شريحة المصدر المفتوح هذه حتى الآن هيمنة إكس 86 وآرم، وقدرت مجموعة أس.أتش.دي أن 1.9 في المئة من جميع وحدات النظام على الرقاقة التي تم شحنها في عام 2022 تحتوي على معالج ريسك 5.
ولكن مع تزايد الطلب على رقائق الذكاء الاصطناعي، فإن التكلفة المنخفضة لهذه الشريحة وسهولة التخصيص وكفاءة الطاقة جعلتها جذابة لبعض صانعي الرقائق.
وقال زياد أصغر، نائب الرئيس الأول لإدارة المنتجات في كوالكوم، في مقابلة نُشرت على موقع الشركة على الإنترنت في سبتمبر الماضي، إن مصنعي المعدات الأصلية “يريدون تطوير نوى مخصصة للغاية وريسك 5 تناسب هذا المشروع حقا”.