كريتر نت / قصة قصيرة للأستاذ منصور عبيد حسين
كانت امنية والده ان يصبح قاضيا ،لذلك جد في تعليمه حرم نفسه من اشياء كثيرة، من اجل ان يتعلم ابنه ، فقد كان يكره شخصا واحدا وهو خطيب جمعتهم الذي كان في نفس الوقت قاضي محكمتهم، يخطب فيهم كل جمعة عن الجنة والنار والحلال والحرام وطوال الاسبوع يمارس في المحكمة ماحرم الله… ..زرع في ضمير ابنه شجرة الخير ، فاتت اوكلها خيرا… .تخرج محاميآ .
وبعد سنوات طويلة كان قاضيا ينقل من محكمة الى اخرى ، ومازالت كلمات والده الميت حية في اعماق الذاكرة…يدعو الله كثيرا.. قدم له الكثير من المال فرفضه ، قدمت له الهدايا فردها عليهم وابى ان يقبلها.. نظر اليه الناس باستغراب وذهول، في احدى الجلسات قال له احدهم : اعرف اني صاحب حق ولكن لم اتوقع ان تحكم لي… ضحك وغادر قاعة المحكمة متجها الى مكتبه وهو يقول : اعني يالله.
ذات يوم دخل عليه رجل من هيئته يبدو انه غنيا قدم له قارورة عسل فقال القاضي : هل لك من حاجة عندنا ? رد الرجل : انما هي هدية ، فاخذها بخفة ووضعها في خانه طاولته .. ابتسم الرجل وفرح في سره، احس انه انتصر عليه ، بعد عدة ايام عاد الرجل مبتسما فجلس الى جوار القاضي وهو يمد له ورقة… قال القاضي ماهذه ? قضية صغيرة اريد ان تحكم لي فيها .
اضاف سادفع لك ماتريد المهم لاتجعلني مسخرة امام الناس… راحت عيني القاضي تلتهم الورقة .. ثم نطق : هل لك مايثبت كلامك ، لم يجب الرجل الذي مازال مبتسما ، فأخرج القاضي قارورة العسل فقال الرجل في سره وهو ينظر الى القارورة: يالك من قاضي نزيه كل يوم عسلا ، لابد ان بيتك ممتلئ بالعسل والهدايا و… كل القضاة هكذا ولكن انت تفوقت عليهم بانك تنصف المظلوم وتأخذ من الظالم .
كانت عيناه تدوران بين وجه القاضي والقارورة ومازال مبتسما ، وبينما عقله غارقا ..كانت القارورة قد تناثر زجاجها وسال عسلها على جدار وارض المكتب ،اصابته الخيبة واختفت الابتسامة ونظر الى القاضي فراى اسد يكاد ينقض عليه فاخذ ورقته وخرج مسرعا .
في هذه الاثناء دخلت عليه عجوزا فقام ليجلسها على الكرسي ، رفعت كيسها الى حضنها واخرجت منه ملفا مدته له ففتحه كانت بعض اوراقه صفراء مهترئة أطرافها ممزقة والبعض مازال في حالة جيدة، راح يقلبها… فقالت العجوز : عشرون عاما وأنا ابحث عن حقي ..ولم اجد من ينصفني ..مدت يدها الى فوق الاوراق هذه احكام سلفك من القضاة الذين سبقوك .. قال لها: ان شاءالله أنا من يرد لك حقك… هل تعودين بعد اسبوعا… .قامت فقام ليساعدها وهو يدعو الله ان يطيل عمرها حتى يرى فرحتها ..بعد اسبوع عادت اليه ..لتجد امامها خصمها ورجال تعرفهم اقتربت منه وهي تقول : ماذا وجدت في بصائري وصوبت نظرها الى خصمها… اجلسها الى جواره وربت على يدها وهو يقول: الان ستسمعين حكمي ..رفع عينيه الى خصمها وهو يقول: انت صاحبة الارض واشار بالسبابة الى خصمها وهذا سيعيد لك ماخسرتيه طوال عشرين عاما.
ثم امر الجندي ان يأخذه الى السجن.. سالت دموع الفرح… مدت يدها المرتعشة الى كيسها واخرجت قارورة وهي تقول : هذا ماجمعته طوال الاسبوع ، أنا عندي بقرتين وهي تمسح دموعها هذا من امك… ضحكت… لقد اعطيتهم الكثير من المال ومن هذا… .ولم اسمع ماسمعته اليوم… شعر بعطف الامومة الذي افتقدها منذ زمن .
وهي تودعه قالت له : انهم يكيدون لك .. فهم لايقبلون من يقول الحق ،احذر منهم يابني… اشتعلت قلوبهم ضده نارا وجاء امر نقله شعر بالسعادة لانه يرى كل يوم وجه مظلوما بدموع الفرح… وظل سؤالا معلقا في الذاكرة الى متى يظل الناس ينافقون ويجاملون الفاسدين على حساب حياتهم وحياة ابنائهم ?!!! ( ديسمبر 2009 م )





