أحمد بان
كاتب مصري
قد يتصور البعض منا أنّ ظاهرة التطرف، قاصرة على تلك الجماعات التي تحاول إكراه الناس على معتقدها الخاص، سواء بالإكراه المادي، متمثلاً في حمل السلاح، أو الإكراه المعنوي عبر المظلومية وفنون الخداع الأخرى، التي تمرّ عادة عبر التفسيرات الدينية الخاصة، أو ما تقدّمه فنون الإعلام الجديد، لكن يغيب عن الكثيرين أنّ التطرف حالة أوسع في مجتمعنا، تعكسها أحوال من لا يؤمن بالنسبية في الأفكار والمشاعر، وهم كثيرون.
لا يخضع منطق أو سلوك كلّ شخص منا عادة لسلطان العقل، والتأمل الهادئ والطويل في سنن الله تعالى في كونه، ولا احترام قيمة التنوع ولا التباين في أحوال الناس؛ وغالباً ما تحكمه اختياراته الخاصة وأذواقه، التي يريد أن يفرضها صارمة على كلّ من حوله، إما بسلطان رابطة الدم على زوجته وأولاده وذويه، أو بسلطان النرجسية أو غيرها من الأسباب النفسية، التي لا يكاد ينجو من آثارها إنسان إلا مَن رحم ربك.
كثيرون في مجتمعنا يحاولون فرض أفكارهم ومشاعرهم على من حولهم، فلا يهشون ويبشون إلا في وجوه من يوافقونهم الرأي والشعور بحقّ أو باطل، ويتّهمون من لا يشاركهم الرأي والشعور عادة بقصور الفهم وتبلّد الإحساس، فقط لأنّ أفكارهم ومشاعرهم لا تتطابق معهم، آية ذلك أنّ الكثيرين لا يسمعون لما يقوله الآخرون، ولا يشعرون بمشاعرهم، ولا يحاولون أن يضعوا أنفسهم مكانهم ليتفهموا ما يقولون.
جذر الأزمة في مجتمعاتنا هو توسيع مطلقات كلّ شخص، وحصار النسبية، فما يطرحه في النهاية ليس وحياً إلهياً معصوماً، سواء انصرف ما يقوله لأمر ديني أو دنيوي، لكن القاعدة العامة في مجتمعاتنا تعشق المطلقات وتنفر من النسبيات، هل هذا عرض لكسل عقلي ومعرفي، أم عرض لأمراض الغرور والشعور المرضي بالذات؟ أتصور أنّ العاملين يصنعان معاً نفسية المتطرف، التي قوامها الكسل المعرفي والغرور والنرجسية، وقديماً قال الإمام الشافعي، وهو رائد وفارس من فرسان المناظرة: “ما ناقشني عالم إلا غلبته وما ناقشني جاهل إلا غلبني”.
أتصور أنّ أيّة مواجهة للتطرف، لا تبدأ من رفع واقع مجتمعاتنا وتشخيص حالته النفسية والمعرفية والثقافية، هي لون من ألوان العبث.
إنّ مجتمعاتنا ما وصلت إلى هذه الحال، إلا لكونها تعاني من مرض التطرف الذي أصبح ظاهرة حقيقية تحتاج إلى اشتباك جاد، ألا تزعجنا أبداً تلك الفجوة الحضارية بيننا وبين الغرب المتقدم، التي لا يجب اختزالها في الفجوة التكنولوجية والتنموية؛ بل إنّ الفجوة الأكثر فداحة، هي الفجوة الثقافية والمناعة الحضارية والنفسية لمجتمعاتنا، مقارنة بذلك الآخر.
يظنّ البعض أنّ تخلف بنى المجتمع المدني سببه الرئيس القيود القانونية والعراقيل التي تضعها الأنظمة، غافلين عن أنّ العلة الرئيسة في ذلك هي ضعف ثقافة الحوار وشيوع ثقافة الاستبداد، التي تجعل كل من يطرح رأيه أو تقديره يطرحه ليس باعتباره رأياً يحتمل الخطأ والصواب، ويبقى في حاجة إلى تكامل غيره من الآراء والتصورات؛ بل باعتباره حكماً قضائياً باتاً، أو وحياً سماوياً مقدساً، بالتالي؛ تفشل عادة أيّة جلسة جماعية، وكثيراً ما ينتهي الحوار فيها إلى مزيد من النفور إن لم يصل حد عراك بالأيادي.
لماذا لا يتقبل كلٌّ منا أنّ الكثيرين يمتلكون رأياً مختلفاً؛ فنتوقع منهم ألا يتفاعلوا إلا بطريقتنا، فإذا طربنا لصوت فهو الصوت والمقياس الذي يجب أن يعايَر الذوق السليم على أساسه، وتوضع القواعد من أجله، وإذا ضحكنا لفكاهة يجب أن يضحك لها الجميع؛ فهي دعابة توفرت لها كلّ عوامل الانشراح والسرور!
في واقعنا؛ نجد هذا الشخص الذي يعتقد أنّ رأيه يجب أن يكون هو الرأي المعياري، وكذلك ذوقه في الفنون والعلوم والآداب، وحتى موقفه منها، نقداً أو إعجاباً، هو الموقف الصحيح والصائب، فلا يعتقد في وجاهة أيّ رأي أو شعور آخر، ويبقى ممتعضاً إذا واجه ذوقه أو رأيه إنكاراً ما، ضاق أو اتسع.
هذه النفسية التي تصفعنا كلّ يوم هي مؤشر دال على عمق ثقافة التطرف في مجتمعاتنا، التي لا تقف، كما أسلفت، عند اختياراتنا الفقهية أو الفكرية؛ بل إلى ما نطرب له، أو نحبه، من فنون أو آداب.
ستتحرر مجتمعاتنا من التطرف حين تنتعش ثقافة العقل والمنطق، ويتسع الإيمان بالنسبية التي تغطي كلّ رأي وشعور، وهذا قد لا ينجح إلا في مجتمعات تشخص أمراضها بشجاعة، وتضع العلاج المناسب وتحرص على تناوله.
لا يكاد ينجو أيّ منا من هذه الأمراض، فأنا أشعر بوجاهة رأيي، لكن لا يجدر بي أن أغلق عقلي ومشاعري رافضاً تغييره، ما توفر منطق وبيان ينقلني لغيره، حتى في الشعور والإحساس قد يتغير شعوري نحو مطرب أو عمل فنّي إذا ساعدني غيري في إدراك ما لم أكن أدركه من قبل.
متى ندرك أنّ المطلقات محدودة جداً، وبأنّ الله تعالى أرادها كذلك، وبأنّ النسبية أوسع بكثير، ونتفهم كلّ رأي وشعور، ولا نحكم على رأي غيرنا بالضعف او القوة، ونرى أنّ خطّ الحياة الزمني أطول مما نعتقد، وأنها ستبقى مستودعاً ضخماً للخبرات والتفاعلات والنظريات والافتراضات؟
ما أجمل احترام كلّ رأي وشعور، فقط لأنه صدر عن نفس بشرية، أياً كان معتقدها الديني أو الفكري، والإيمان بوحدة البشر، وبأنّ لهم إلهاً واحداً يحبونه ويخشونه في ضمائرهم، مهما تعددت وتباينت الطقوس أو الديانات الدالة على ذلك، ويورث ذلك في نفسي تسامحاً مع كلّ الخلق.
أتصور أنّ البوابة الوحيدة التي تفتح لنا طريق النجاة من التطرف هي محبة الخلق، الذين هم عيال الله تعالى، والإيمان الدائم بأنّ الله تعالى محبة، وكلّ تصور للدين لا يضع المحبة كقيمة رئيسة ويحضّ على كراهية الآخر أو حربه، دون منطق إنساني وشرعي صحيح؛ يظل فاسداً، وإن علا صوت شعائره وملأ أتباعه طباق الأرض.
نقلاً عن حفريات