كريتر نت – متابعات
سمح تراجع القوى البحرية الغربية لروسيا بالتقدم من شبه الهيمنة إلى السيطرة على حوض البحر الأسود منذ 2022، ما منحها أوراق ضغط موجعة للغرب وأوكرانيا. ويحذر محللون من أن يتحول غياب القوى البحرية الغربية عن المنطقة إلى وضع جديد يصعب عكسه.
وابتعدت القوى البحرية الغربية عن البحر الأسود حتى إشعار آخر. وكان هذا وضعا استثنائيا نادرا في التاريخ الحديث. ولم تدخل أي سفينة حربية من دولة غير مشاطئة للبحر الأسود منذ ديسمبر 2021. ولم تُنظّم أي مناورات بحرية بمشاركة غربية فيه منذ يوليو 2021، فيما يتمتع أسطول البحر الأسود الروسي بحرية تحرك واسعة منحته ميزات إستراتيجية في الحرب على أوكرانيا والمواجهة مع الغرب.
ومن المرجح أن يكون انسحاب القوى الغربية من البحر الأسود إجراء مؤقتا، إلا أن محللين يقولون إن الانسحاب المفتوح يتعارض مع تاريخ الوجود الغربي البحري الطويل. وترجع عوامل الانسحاب إلى البيئة الخطرة التي خلقتها الأعمال العسكرية الروسية في البحر الأسود في الفترة التي سبقت غزو أوكرانيا وأثناءه وسياسة الولايات المتحدة وحلفائها المتمثلة في تجنب الاتصال الحركي مع القوات الروسية بأي ثمن، وقرار تركيا منع دخول السفن الحربية من الدول غير المشاطئة عبر مضيق البوسفور إلى البحر الأسود عند اندلاع الحرب.
ويتناقض الغياب الحالي للقوات البحرية الغربية عن البحر الأسود مع وجودها طوال فترة ما بعد الاتحاد السوفياتي وخاصة إثر التدخل العسكري الروسي في 2014 ضد أوكرانيا. ووفقا للباحث الألماني كارستن شميدل كانت سفن الحلفاء الغربيين الحربية موجودة في البحر الأسود لمدة 210 أيام في 2014، و58 يوما في 2016، وبقيت لمدة 182 يوما في 2021.
لكن الحلفاء الغربيين لم يدخلوا (سواء بشكل فردي أو جماعي ضمن الناتو) البحر الأسود مرة أخرى خلال حرب أوكرانيا، حتى عندما لاقت الإجراءات الروسية إدانتهم الشديدة، مثلما حدث مع الحصار المفروض على صادرات الحبوب الأوكرانية والضربات الصاروخية ضد بنية البلاد التحتية الحيوية.
وسّعت روسيا مجال سيطرتها في البحر الأسود تدريجيا، وطردت الدول المشاطئة الأخرى من المياه الدولية ومناطقها الاقتصادية الخالصة ثم القوات البحرية الغربية من البحر خلال الحرب. وفرضت روسيا من خلال انتزاع أبخازيا من جورجيا في 1994 سيطرة كاملة على الجزء المقابل من البحر الأسود حتى قبل إعلان الاستيلاء رسميّا في 2008. كما مكّن ضمّ شبه جزيرة القرم في 2014 روسيا من الاستيلاء بحكم الأمر الواقع على مساحات شاسعة من المياه الإقليمية الأوكرانية ومنطقتها الاقتصادية بالإضافة إلى السيطرة على بحر آزوف ومضيق كيرتش (مشترك حتى الآن مع أوكرانيا).
توسع روسيا
واستولت روسيا في 2022 على الساحل الأوكراني المطل على بحر آزوف وعلى جزء من ساحل البحر الأسود الأوكراني حتى مدينة ميكولايف. ووضع هذا التوسع أسس الحصار الروسي لأوكرانيا وغزو المناطق الاقتصادية الحصرية البلغارية والتركية.
وبرزت حالة واحدة لعملية حرية الملاحة في البحر الأسود (وإن لم يُعلن عنها رسميا). ففي يونيو 2021، أبحرت المدمرة البريطانية “إتش إم إس ديفندر” لمسافة قصيرة عبر المياه الأوكرانية المعترف بها دوليا، والتي استولت عليها روسيا بحكم الأمر الواقع قبالة ساحل القرم. وردّ الروس بسفينة دورية وجهت طلقات تحذيرية إلى المدمرة، كما أسقطت طائرة نفاثة قنابل في مسارها.
ومثلما تجنبت روسيا إعلان الحرب على جارتها وأشارت بدلا من ذلك إلى “عملية عسكرية خاصة”، لم تعلن موسكو رسميا عن حصار بحري لأوكرانيا. وكان من شأن الحصار المعلن المصاحب لإعلان حالة الحرب أن يمكّن روسيا من إيقاف أي سفن تجارية وتفتيشها كما تريد، وإعادة السفن المشتبه فيها، وربما الاستيلاء على السفن الأوكرانية.
◙ منع الشحن المباشر وسيلة ضغط روسية قوية في المفاوضات مع أوكرانيا أثناء الحرب أو في محادثات السلام النهائية
وامتنعت روسيا عن مثل هذه الأعمال حتى الآن لاعتبارات سياسية ودبلوماسية وعملية. وتنفذ حصارا بحريا مشابها للحرب البرية بحكم الأمر الواقع، وتفرض الحصار دون الحاجة إلى الطلقات التحذيرية أو الاصطدام بالسفن (طريقة روسية تكررت في 2003 و2014 و2018 في البحر الأسود). وفي نفس الوقت، تستكمل روسيا الحصار البحري بمهاجمة الموانئ التجارية الأوكرانية من الجو. وكثيرا ما تعلن روسيا عن مناورات عسكرية في أجزاء تختارها من البحر الأسود، وكان ذلك مؤخرا في المنطقة البلغارية الاقتصادية الخالصة.
وكانت هذه الأساليب كافية حتى الآن لتخويف السفن التجارية الأوكرانية والدولية من الإبحار في المياه الأوكرانية، ومنعت مشاريع النفط والغاز البحرية في مياهها الإقليمية ومنطقتها الاقتصادية الخالصة. كما أعربت بلغاريا عن عدم ارتياحها لخوض مشاريع الغاز الطبيعي في منطقتها الاقتصادية الخالصة بينما تتدرب السفن الحربية الروسية فيها.
ولا يكمن هدف الحصار النهائي بالضرورة في حظر الصادرات والواردات البحرية الأوكرانية، بل تتمثل الأهداف في أن تملي روسيا الحدود البحرية “الجديدة” ووضعها قواعد الملاحة من جانب واحد، وفرضها الامتثال الدولي لها بشكل غير رسمي على الأقل، واحتفاظها بالقدرة العسكرية على منع الشحن المباشر لأي مدة تقررها.
ويصبح كل هذا من وسائل الضغط في المفاوضات الدولية أثناء الحرب أو في مفاوضات السلام النهائية. وتطالب روسيا في الوقت الحالي بتنازلات اقتصادية وسياسية من أوكرانيا وشركائها الغربيين مقابل تخفيف الحصار الكامل. وأثبت الكرملين أن هذا التخفيف انتقائي وجزئي ومشروط ومحدود زمنيا وقابل للإلغاء. وسيسمح في هذه الحالة بالصادرات الزراعية الأوكرانية فقط، وبشكل جزئي، إذ أن السيطرة الكاملة، وليس الحصار الكامل، هي هدف روسيا النهائي.
ولوحظ هذا بالفعل خلال أزمة مضيق كيرتش سنة 2018 وما بعدها. وعلى عكس بعض التصورات السائدة حينها، لم تهدف روسيا إلى قطع أوكرانيا عن بحر آزوف والبحر الأسود تماما، ولم تحظر الشحن الدولي من أوكرانيا وإليها عن طريق إغلاق المضيق. وكانت روسيا تهدف بدلا من ذلك إلى التمتع بقبول دولي للاستيلاء على شبه جزيرة القرم ومضيق كيرتش.
وأجبرت موسكو الشحن الدولي والأوكراني (وإن كان ذلك ضمنيا) على اتباع تعريفها للحدود البحرية، وقواعد الملاحة التي تمليها، والدخول في معاملات مباشرة مع سلطاتها في ميناء كيرتش. وفي نفس الوقت، كانت موسكو تهدف أيضا إلى خنق موانئ بحر آزوف الأوكرانية اقتصاديا في ماريوبول وبيرديانسك ببطء، من خلال التلاعب بالوصول الدولي والأوكراني عبر مضيق كيرتش من الاتجاهين. وأثبتت هذه التكتيكات نجاحها بحلول 2021 – 2022 عندما قررت روسيا غزو ساحل بحر آزوف الأوكراني.
◙ السيطرة الكاملة أو الحصار التام تفترض هيمنة روسية دون منازع في حوض البحر الأسود، دون وجود بحري غربي معادل
تفترض السيطرة الكاملة أو الحصار التام هيمنة روسية دون منازع في حوض البحر الأسود، دون وجود بحري غربي معادل. وتطور هذا الوضع بعد قرار القوى الغربية في ديسمبر 2021 بعدم إرسال سفن حربية إلى البحر الأسود تحسبا للحرب الروسية وبقرار تركيا في فبراير 2022 منع أي سفن حربية تابعة لدول غير مشاطئة من دخول هذا البحر عبر مضيق البوسفور.
وتشير وثائق قمة فيلنيوس الأخيرة للناتو والبيان الصادر عن اجتماع مجلس الحلف وأوكرانيا إلى أن القوى المتحالفة لا تنوي في الوقت الحالي تغيير قرار إبقاء السفن الحربية بعيدة عن البحر الأسود. ولم يبرز أي خلاف ملموس بين القوى البحرية الغربية وأنقرة حول إغلاق مضيق البوسفور. وكان إجماعهم قائما من الناحية القانونية على اتفاقية مونترو وهو اتفاق سياسي.
واستندت أنقرة في قرار إغلاق مضيق البوسفور أمام السفن الحربية غير المشاطئة إلى تفسير تقديري لأحكام اتفاقية مونترو. ووصفت أنقرة الوضع من جانب واحد بأنه “حرب”. لكن وضعها غير العسكري وقرارها القائم على أسس قوية بعدم اعتبار نفسها مهددة يعنيان أنها تفتقر إلى سلطة واضحة لإغلاق مضيق البوسفور أمام السفن الحربية الحليفة. وكان قرارها (ولا يزال) سياسيا وتقديريا. وتمنح الاتفاقية تركيا هذه السلطة التقديرية، ولكن ليس في هذه الحالة.
وليست شروط اتفاقية مونترو بالتالي التي منعت السفن الحربية الغربية من دخول البحر الأسود بل قرار أنقرة. وتبدو القوى الغربية المتجنبة للمخاطرة وروسيا المعتدية (لأسباب معاكسة) راضية عن قرار تركيا. ويبدو الجدل القائم في المقابل أكاديميا، حيث تتمتع تركيا بسلطة تقديرية بحكم الأمر الواقع على المضائق وهي قادرة على فرضها دون أي تحديات. وستعتمد العودة النهائية للقوى البحرية الغربية إلى البحر الأسود في النهاية بشكل كبير على علاقات تركيا مع حلفائها في الناتو وروسيا.
خلافات الحلفاء
ويشكّل غياب القوى البحرية الغربية الحالي عن البحر الأسود تغيّرا حادا عن تاريخ وجودها الثابت. وينبع هذا الوضع الجديد، الذي بلغ شهره العشرين، من قرارين منفصلين ولكن منسجمين: قرار القوى الغربية بوقف الدوريات البحرية وزيارات الموانئ والتدريبات في البحر الأسود، بالتوازي مع قرار تركيا إغلاق مضيق البوسفور أمام سفن حلفائها الحربية بموجب تفسير فردي لاتفاقية مونترو.
ومن غير الواضح ما إذا ستعتمد عودة القوات البحرية الغربية في النهاية إلى البحر الأسود (وسماح تركيا لها بذلك) على إنهاء الأعمال العدائية النشطة بين روسيا وأوكرانيا. ويشوب الغموض الأفق الزمني “لإنهاء الحرب”، أو الهدنة، أو “تجميد الصراع” بين روسيا وأوكرانيا. وتفتقر هذه المفاهيم إلى أي تعريف متفق عليه في عصر الحرب والسلام الهجينين.
ويصعب لذلك التكهن بما إذا سيكفي خفض تصعيد الحرب لإعادة تركيا فتح المضيق أمام الأساطيل البحرية الغربية، حتى تنظم زيارات وتدريبات في البحر الأسود مرة أخرى. وتصرّ موسكو أن على أي وقف لإطلاق النار أو هدنة أو مفاوضات أولية أن يؤكد استحواذها على أراضي أوكرانيا “الواردة في دستورها”. ولن تقبل أوكرانيا هذه الشروط. ويشكّل عناد موسكو فائدة إضافية تتمثل في إبعاد القوات البحرية الغربية عن البحر الأسود بينما تستمر الأعمال العدائية بين روسيا وأوكرانيا.
وأوقف الحصار البحري الروسي مبادرة حبوب البحر الأسود للصادرات الزراعية الأوكرانية إلى الأسواق العالمية. وأصبحت إعادة هذه الصادرات لخفض أسعار الغذاء العالمية أولوية قصوى على الأجندة الدبلوماسية الغربية. لكن القوى الغربية ليست مستعدة لتوفير الحراسة البحرية للسفن التجارية في ظل الحصار الروسي. وتتحرك، بدلا من ذلك من خلال الأمانة العامة للأمم المتحدة، وتلجأ إلى تركيا للتفاوض مباشرة مع روسيا للسماح بعودة الصفقة.
◙ المرجح أن يكون انسحاب القوى الغربية من البحر الأسود إجراء مؤقتا لكن محللين يقولون إن الانسحاب المفتوح يتعارض مع تاريخ الوجود الغربي البحري الطويل
ورفض الرئيس التركي رجب طيب أردوغان طلب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الذي أراد من السفن الحربية التركية مرافقة السفن المحملة بالحبوب بعد الحصار الروسي. ويريد أردوغان أن يكون وسيط إنقاذ مبادرة الحبوب، التي ساعدت تركيا في التوسط فيها إلى جانب الأمانة العامة للأمم المتحدة.
وتسمح هذه المعايير لروسيا باختيار الموانئ البحرية الأوكرانية التي يمكنها أن تنشط، وبالتحكم في مسار الشحنات عبر البحر الأسود وتقييد حجم الشحنات ووتيرتها من خلال فرض إساءة استغلال “حق” القوات التابعة لموسكو في فحص البضائع والسفن. ويهدف أردوغان إلى إثبات قدرته على حل القضايا الإقليمية في البحر الأسود إلى جانب روسيا، بشكل مستقل عن الغرب أو بدلا عنه. لكن هذا لن يكون ممكنا سوى بشروط مقبولة لروسيا. ويغذّي إغراء الثنائية التركية – الروسية في الأثناء تردد أنقرة في إشراك قوى “غير إقليمية” في شؤون البحر الأسود الأمنية.
وتفتقر تركيا نفسها إلى القوة الكافية لموازنة روسيا في البحر الأسود. وانتهى التكافؤ التقريبي لقواتهما بحلول 2014 مع ضم شبه جزيرة القرم. وأصبحت معظم الأصول البحرية التركية الحالية ملتزمة بمسارح أخرى. ولا يعني هذا ميل تركيا نحو روسيا خلال الحرب المستمرة، لأن أنقرة تحاول الموازنة والتحوط. وهي تواصل التعبير عن دعمها السياسي لعضوية أوكرانيا وجورجيا في الناتو.
كما تعد تركيا مصدرا مهما للأسلحة التي تعتمدها أوكرانيا خلال هذه الحرب. ومن شبه المؤكد أن أنقرة تدرك حاجتها إلى أوكرانيا لتوفير بعض التوازن على الأقل في مواجهة روسيا في منطقة البحر الأسود. لكنها تميل مع ذلك إلى موسكو في تحوطها من القوى الغربية، وتعتبرها الشريك الاقتصادي الأول الذي لا بديل عنه.
والنتيجة النهائية هي افتقار تركيا إلى الوسائل لمنع روسيا من تعزيز هيمنتها في حوض البحر الأسود. وتفتقر تركيا، نظرا إلى مصالحها الاقتصادية، إلى الحافز لتحمل مخاطر “لا داعي لها” في مواجهة الطموحات الروسية في المنطقة. وفي نفس الوقت، سيقوّض توسع روسيا من خارج شبه جزيرة القرم إلى أجزاء أخرى من سواحل أوكرانيا قوة دول المشاطئة بما في ذلك تركيا.