محمد علي محسن
عَرَفتُ الدكتور محمد مسعد، أستاذ الشعر الجاهلي، مبدعًا فذًا وذهنيًا لامعًا منذ اللقاء الأول به في سكن كلية التربية بالضالع عام 1998م.
كان وقتها معيدًا متطوعًا ، أذهلني بنقاشه الثري، وذكائه الحاد، وتصوراته العميقة، وتجلياته الفلسفية، وكلماته الشعرية الآسرة، فضلاً عن رغبته الصادقة في مواصلة تعليمه.
وهو الحلم الذي تَجَسَّدَ على أرض الواقع في الأعوام اللاحقة، إذ نال درجتي الماجستير والدكتوراه بامتياز، وكانت رسالتاه في موضوعين بالغي الأهمية؛ تمحورتا حول الصورة الشعرية ، والتناص في شعر العملاقين: عبد العزيز المقالح وعبد الله البردوني .
والدكتور محمد شاعر موهوب، لا يقيم وزنًا للتقليد، وإنما يتحفز دائمًا لكسر جموده بحروفه وقوافيه. فهو ليس من النوعية التي تكتب القصيدة بتكلف أو بمجرد معرفة سطحية ببحور الشعر، بل يؤمن بأن الشعر قبلهما صنعةٌ محكمة، وحرفةٌ متقنة، ومهارةٌ متولدة، وخيالٌ جامح، وموقفٌ وجودي.
وحين طلبته أن يكتب لصحيفة رسمية ومن ثم أهلية رأستها في أعوام الجمر، لم يتردد. فجاء عموده الأسبوعي قصيدةً نابضة بالحب والأمل، مُزيّنةً بسخرية لاذعة عذبة.
كما وكتب المقالة النقدية الطويلة، وأبدع بشكل لافت حين كتب الأوبريت الغنائي بلغة بديعة موحية، مُجسِّدًا صورة الإنسان متعدد المواهب.
وتجدر الإشارة إلى أن مؤلفاته السابقة – والتي تشمل “النقد الأدبي الحديث بأبسط صوره”، و”النفس اللوامة”، و”البلاغة العربية بوجهة جديدة”، و”لذة الألم” – قد كشفت باكرًا عن ذاته المتمردة وأفكاره الجريئة الكاسرة لرتابة التقليد.
إنه إنسان مثقف تميز عن أقرانه ممن خاضوا غمار التأليف في موضوعات شائكة، غير مألوفة أو مُستَساغة في محيط محافظ متحصن بأعراف وتقاليد بالية.
إن الدكتور محمد غزير المعرفة والإنتاج، فلا يخوض موضوعًا إلا ويترك فيه بصمته الخاصة، مُضفيًا عليه نوعًا من التميز، وفاتحًا أبوابًا للتساؤل والنقد والإعجاب معًا .
لقد بدأ صديقي محمد مسيرته كاتبًا للقصيدة الشعرية بكل أنواعها: العمودية، والتفعيلية، والنثرية، وحتى العامية، فأجادها جميعاً وتمايز فيها.
ومع نضوج تجربته الشعرية، وانطلاقًا من كونه أستاذًا لنقد الشعر الجاهلي، اتجه نحو البحث العلمي، مستفيدًا من مخزونه الشعري الثري ، ومفيدًا طلابه بما اكتسبه من معرفة وتجربة .
ثم اتجه إلى كتابة الرواية، فوجد في السرد ضالته المنشودة، حيث يمنحه مساحةً أوسع وأشمل للتعبير عما تختلج به نفسه مقارنة بفضاء القصيدة المكثف. وجاء هذا التحول بعد رصيدٍ يزيد على عشر إصدارات شعرية ونقدية، من بينها مجموعتاه الشعريتان “هيلين” و”دموع البُن”.
وإذا كانت روايته الأولى “الغادرة” قد مثَّلت محاولةً تجريبيةً لنسج التاريخ بنفس الحاضر وروحه، فإن خوضه غمار السيرة الذاتية في رواية “اليقطينة” قد أفسح المجال لذاته الحقيقية كي تعبر عما يعتلج في داخلها من ذكريات وحنين، ونقاء وروح مرحة، وحسرة وندم، وأمل وإخفاق وتجرد.
وكانت المحصلة فصولًا وشخصياتٍ وأحداثًا شكّلت واحدة من أبدع الأعمال السردية.
وبعد “اليقطينة”، توالت عطاءاته السردية بتنوع لافت، فمن “البئر” إلى “المدهشة” إلى “رعب الساعة التاسعة” وصولاً إلى ” مدينة الشيطان “. ولا شك أن لكل مبدع نقادَه، وقد أُخِذَ عليه في بعضها التسرع أحيانًا ، أو الوقوع في مثالب الحسابات الشخصية، أو الإفراط في الكم على حساب النوعية.
ولكن، وفي المحصلة النهائية، يبقى كل عمل إبداعي، روائيًا كان أم شعريًا ، عرضة للنقد والخطأ، فالكمال لله وحده.
لا ينفصل إبداع الدكتور محمد عن جذوره الريفية الضالعية التي شكلت وعيه الأول. فحبه لقريته “العُقلة” ليس مجرد حنين عاطفي، بل هو انتماء وجودي .
كتب عن المكان الذي نشأ فيه وترعرع : ” كنت في صغري أرى الشمس تشرق من خلف جبالها الشرقية وتغيب خلف جبالها الغربية، فظننت أن لا عالم وراء تلك الجبال”.
هذه النظرة الفلسفية للمكان تظهر جلية في أعماله، حيث يتحول الجغرافي إلى ذاتي انساني ، والواقعي إلى أسطوري خرافي ”
وفي كتاباته النقدية ينطلق الدكتور محمد في مشروعه النقدي والإبداعي من رؤية مفادها أن “مهمة النقد اليوم لم تعد تَسْتَوْقِف مواطن القبح للتوجيه فقط، بل هي تعمل على هدم النص المنقود لتبني من أشلائه ذاته مُجَدَّدًا “.
ويرى أن العالم الواقعي قد يكون خرافةً أحيانًا ، وأن الخرافة قد تكون عالمًا واقعيًا، مما يفسر هذا التداخل الجميل بين الواقع والأسطورة في رواياته.”
وجرأة الدكتور محمد الفكرية لم تمر بسلام في محيط محافظ، حيث تعرض – بسبب ما ورد في بعض رواياته مثل “اليقطينة” أو ” رعب الساعة التاسعة ” – لانتقادات حادة وتهديدات بلغت حد التطرف، إلا أن إيمانه برسالته وصوته المختلف جعله يصمد كالجبال في وجه العواصف، مُثبتًا أن الكاتب الحقيقي هو من يتصدى لما هو مألوف ومعتاد ، ويدفع ثمن هذه الجرأة بشجاعة.
ختاماً.. ليس الدكتور محمد مسعد مجرد صديق عزيز، بل هو قيمة وطنية وإنسانية شاخصة.
إنه ذلك الوجه النقي للضالع الذي ينتصر بالإبداع على واقع مرير، وبالجمال على قبح الحرب، وبالروح المتوثبة على زحام الانتهازية واللؤم.
لقد قهر الظروف المحبطة، وكسر قتامة المشهد، وحوّل الألم إلى كلمة، واليأس إلى أمل.
إنه الباحث عن الجمال في زمن القبح، والمؤمن بالحب في فضاء الكراهية.
بكلمة.. إنه محمد العودي: الشاعر، والناقد، والروائي، والأستاذ الجامعي.. ذلك العالم الواسع الذي لا يتسع إلا للجمال والإبداع والإنسانية. فله منا كل التحية والإجلال.















