هشام النجار
يضع التقدم الذي يحرزه تنظيم داعش في أفريقيا حكومات الدول الأفريقية أمام تحد استثنائي بعد أن ثبت أن التحالف مع فاغنر لا يمكن أن يكون بديلا للقوات الدولية.
وأحرز تنظيم داعش في الساحل الأفريقي تقدمًا غير مسبوق وبات مُسيطرًا على معظم منطقة الساحل جنوب الصحراء الأفريقية، وفي الوقت الذي ظن البعض فيه أن بوركينا فاسو هي خط الدفاع بعد انهيار مالي، بدأ التنظيم يجتاح جميع مناطقها باستثناء العاصمة واغادوغو.
تعد مالي التي برهنت وقائع الأشهر الماضية أنها استسلمت لمصيرها في أحضان الجهاديين، مركز الانتشار وقطعة الدومينو الأولى التي تتدحرج في إثرها القطع الأخرى.
لم تنحصر إستراتيجية سحب قوى غربية لقواتها في مالي فحسب، إنما توالت قرارات سحب القوات من دول منطقة الساحل وغرب أفريقيا، ما فتح شهية العديد من الجماعات التكفيرية، خاصة تنظيم داعش الذي يثبت حضورًا ومهارة لافتة في سياق تنافسه مع جماعات موالية لتنظيم القاعدة لوراثة النفوذ الأميركي والفرنسي في عدد من الساحات الحيوية.
يرجع التقدم الذي أحرزه الجهاديون في مالي إلى رحيل الوحدات العسكرية الغربية وما تبعه من رحيل لقوات الأمم المتحدة (مينوسما)، ما أعجز النظام العسكري الذي استولى على السلطة عن التعامل مع التداعيات المتفاقمة.
داعش يهدف من وراء التوسع في خليج غينيا، بعد إخضاع غالبية مناطق مالي وبوركينا فاسو، إلى بلوغ شواطئ البحر
عكست جاهزية تنظيم داعش وتحركاته المدروسة والسريعة قدرته على استغلال الفرص مستفيدا من ديناميكيته وتماسك هيكله التنظيمي، حيث بسط سيطرته على ولاية “ميناكا” المالية ومحيطها، وأصبح لاعبًا رئيسيًا في مشهد الأحداث بعد أن خضع لنفوذه زعماء قبائل اضطروا إلى إعلان مبايعته حفاظًا على ما تبقى من ممتلكاتهم واتقاءً لشروره.
مثلث الموت
كرس داعش تمركزاته في أهم المناطق الإستراتيجية خاصة ما يُعرَف بمثلث الموت بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو قرب الحدود مع النيجر، حيث يسهل تهريب البضائع والأسلحة والمتمردين المسلحين والمخدرات والمهاجرين عبر الحدود، وكلها مصادر دخل رئيسية للجماعات التكفيرية.
أعاد فرع داعش في الساحل والصحراء الكبرى انتشاره بمناطق تانجدجورن وهورارا وفتلى وتيسي، معتمدا على أساليبه التقليدية في إخضاع المناطق لسيطرته عبر ترويع السكان والبطش بالمخالفين والذبح والسطو على الممتلكات والتهجير القسري.
دلت صفقة إطلاق القادة العسكريين في مالي سراح بعض قادة داعش قبل أيام على اعتراف الحكام في باماكو بالمتغيرات الجديدة عقب انتصارات واسعة أحرزها التنظيم.
وفي سياق مطالبة مالي لقرابة 12 ألف عنصر من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة بالمغادرة بعد عشر سنوات من مساهمتها في مواجهة الجماعات المتطرفة والمتمردة، أطلق القادة العسكريون سراح اثنين من أهم قيادات داعش.
وبدت الصفقة التي أُحيطت تفاصيلها بالغموض والسرية انتصارًا سياسيًا لافتًا لفرع تنظيم داعش في الساحل والصحراء الكبرى، الذي فرض نفسه كلاعب رئيسي بالمنطقة، مكرسا سياسة أمر واقع مختلفة بعد أن بات يتصرف كشبه دولة قائمة مسيطرة على مساحات شاسة من الأراضي في مناطق شمال مالي، ما أعقبه باجتياح معظم المناطق الخارجة عن السلطة في بوركينا فاسو.
بالتوازي مع هذا التمدد والتمركز الميداني والجغرافي، يلعب داعش كطرف سياسي يعقد الصفقات ويحرز انتصارات معنوية هائلة أفادته في حملاته الدعائية وتجنيد عناصر جديدة، في مقدمتها إطلاق سراح قادته، وهو ما زاده قدرة على فرض أجندته وإخضاع خصومه.
وباتت بوركينا فاسو التي اعتقدت دول غربية أنها ستكون خط الدفاع بعد انهيار مالي نسخة شبيهة منها، واتسع نفوذ الجماعات التكفيرية المسلحة في البلدين ما عدا عاصمتيهما، علاوة على تمزق الجيش وتردي الأوضاع الأمنية في جنوب شرق البلاد.
لم تعد الفوضى واستقطاع جزء كبير من جغرافيا البلاد قاصرين على مالي، إذ سقطت أخيرًا بوركينا فاسو في ذات المستنقع، حيث تسيطر حكومتها العسكرية على أقل من خمسين في المئة من مساحة البلاد، فيما يسيطر المتمردون والتكفيريون على جزء كبير من المدن الرئيسية، ويحاصرون مئات الآلاف من السكان.
بعد سقوط خط الجبهة في متوالية قطع الدومينو ممثلًا في بوركينا فاسو صار التعويل على تحصين دول الشريط الساحلي، مثل ساحل العاج وبنين وتوغو وغانا، فضلا عن السنغال الأكثر كثافة سكانية في غرب أفريقيا، حيث تتجه أنظار الجماعات التكفيرية المتمردة وفي مقدمتها تنظيم داعش إلى الهيمنة جنوبًا وتتطلع إلى الانتشار عبر الحدود في خليج غينيا.
يهدف داعش من وراء الوصول إلى خليج غينيا بعد إخضاع غالبية مناطق مالي وبوركينا فاسو إلى الخروج من الحدود الصحراوية المغلقة والوصول إلى فسحة شواطئ البحر، ليكتسب من وراء ذلك مزايا إستراتيجية هائلة متعلقة بامتلاك المزيد من الثروات وتثبيت هيمنته فيما يشبه الدولة القائمة وتوظيف الشاطئ الممتد في أعمال القرصنة والتهريب.
ليس هناك ما يدعم على الأرض فرضية كون دول خليج غينيا (بنين وتوغو وغانا وساحل العاج) المطلة على الخليج تمثل خط وجبهة المواجهة الجديدة ضد تمدد التكفيريين المتمردين، على الرغم من تطوير هذه البلدان لقدراتها.
ولا تُخفي دول خليج غينيا هواجسها من الوقوع في نفس المصير بعد التقدم غير المسبوق والانتصارات الهائلة التي أحرزها داعش في مالي وبوركينا فاسو، معتمدًا على إمعانه في القسوة والوحشية.
ولدى داعش في الساحل والصحراء الكبرى خطة مدروسة يحرص على تنفيذها بدقة ووفق جدول زمني محدد، هادفًا للهيمنة على غالبية تلك البلاد الواحدة تلو الأخرى.
وفي سبيل ذلك قام بضم عناصر جديدة من توغو وبنين وساحل العاج وغانا وغينيا والسنغال وعمل على تدريبهم داخل معسكرات بكل من بوركينا فاسو ومالي، ومن ثم أعاد إرسالهم للقتال بدولهم لحسابه.
جبهة المواجهة
ليست الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية بدول خليج غينيا بأفضل حالًا من مثيلاتها في بروكينا فاسو ومالي، ولذا لا تجد تنظيمات كداعش والقاعدة صعوبة كبيرة في تدشين فروع لها هناك، وهو ما يجعل خط جبهة المواجهة المفترض ممثلًا في دول الشريط الساحلي فضاءًا في متناول تمدد نفوذ التكفيريين على المدى القريب.
وأسهم الصراع والاقتتال الدائر بين فرعي داعش والقاعدة في منطقة الساحل الأفريقي حول من يحوز السبق لإعلان خلافته ووراثة الأنظمة العسكرية الضعيفة، في الحد من تقدم الجماعات التكفيرية ومد النفوذ إلى دول خليج غينيا بعد إخضاع غالبية مناطق بوركينا فاسو ومالي.
يظل تنظيم داعش الأكثر ديناميكية وتماسكًا بالمقارنة بالقاعدة في هذه المناطق، ويُرجح أن يكسب في جولات الاستقطاب والاسقطاب المضاد، حيث يميل الجهاديون هناك إلى الخيارات الأكثر تشددًا وعنفًا.
وقع الحاكم العسكري لبوركينا فاسو إبراهيم تراوري الذي تولى السلطة إثر انقلاب عسكري أطاح بالرئيس المؤقت بول هنري سانداوغو داميبا في سبتمبر من العام الماضي، في نفس أخطاء نظرائه العسكريين في مالي، عندما قام بفك الشركة مع فرنسا (جزئيا) وأنهى مهمة بعثة الأمم المتحدة، جاعلا جيشه وقوة صغيرة من قوات فاغنر الروسية في مواجهة تشكيلات المقاتلين العتاة المرتبطين بداعش والقاعدة.
لم يجلب التعاون مع ميليشيات فاغنر التي حلت محل القوات الفرنسية في كل من مالي وبوركينا فاسو سوى الخيبات في الساحتين واتسعت حركة التمرد وازداد نشاط الإرهابيين وسيطروا على الجزء الأكبر من البلاد.
داعش كرس تمركزاته في أهم المناطق الإستراتيجية خاصة ما يُعرَف بمثلث الموت بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو قرب الحدود مع النيجر
أفقدت سياسة الحديد والنار التي اتبعها الحاكم العسكري إبراهيم تراوري تعاطف وتضامن الشعب بعد إعلانه التعبئة العامة وتجاهل اعتبارات حقوق الإنسان وتوسيع دائرة الاشتباه وتكرار الاعتداءات على المدنيين، خاصة من عرقية الفولاني تحت مبرر اتهامهم بتأييد المتمردين ودعمهم.
ضاعفت هذه السياسة من معاناة الشعب البوركيني الذي تجاوز عدد نازحيه المليوني شخص وأُغلقت أكثر من 90 في المئة من المدارس بالبلاد.
وأمعن المجلس العسكري الحاكم في كبت الحريات وأغلق عددًا من محطات الإذاعة والتلفزيون الناطقة بالفرنسية وتعرض العديد من الصحافيين للتهديد والاعتقال، وأُجبر الكثيرون من منتقدي أداء الحكومة والجيش على القتال في الجبهة.
علاوة على أن شريحة كبيرة من السكان العزل وقعت في فخ اضطهاد وقمع متعدد، وتقتل قوات الأمن والجيش المواطنين بسبب عرقهم، ويتعرضون لعنف أشد من قبل عناصر فاغنر، ما سمح للتكفيريين بتقديم أنفسهم كحماة لبعض العرقيات المضطهدة وأبرزها عرقية الفولاني.
من المرجح أن يؤدي تسليح الحكومة للآلاف من رجال الميليشيات إلى المزيد من الوحشية والقتل والاستقطاب العرقي، ويُخشى أن تمضي الدولة في سيناريوهات الإبادة الجماعية ما يُهيئ الطريق أمام انقلاب عسكري ثالث قد يكون أكثر دموية.
وعلى الرغم من عدم سيطرة التكفيريين المسلحين على عاصمتي مالي وبوركينا فاسو، إلا أن معظم جغرافيا البلدين الحيوية باتت في حوزتهم، ما أعطى الحافز المادي والمعنوي لمواصلة التمدد باتجاه دول خليج غينيا، والتي يمثل سقوطها المرتقب منعطفا هائلا في ما يتعلق بالتهديد الإرهابي ليس فقط على مستوى قارة أفريقيا، بل على مستوى العالم أيضا.
المصدر العرب اللندنية