كريتر نت – متابعات
تشق روسيا طريقها نحو المسك بعصا الهيمنة على أحد أهم الإمدادات الغذائية لأسواق العالم، ألا وهو القمح، من خلال اللعب على أوتار حزمة عوامل تريد تطويعها خدمة لمصالحها الاقتصادية والسياسية والعسكرية لتحقيق مكاسب تقاوم بها القيود الغربية.
ويرصد محللون وخبراء إحكام روسيا سيطرتها على إمدادات القمح العالمية بعد اندلاع الحرب مع أوكرانيا قبل أكثر من عام، معززة بذلك دورها في إمدادات الغذاء العالمية بهدف الحصول على الدعم السياسي والأهم تأمين العملة الصعبة.
ومع الفوضى في السياسة الداخلية الروسية بعد إحباط التمرد العسكري، وتضرر مكانتها الدولية نتيجة للحرب، ما زالت الحبوب مصدراً أساسياً للنفوذ، ووسعت موسكو دائرة سيطرتها على السوق المحلية والخارجية.
وفي ظل بدء حصاد المحصول الوفير من الأراضي الخصبة، مثل منطقة شمال القوقاز، ترى وزارة الزراعة الأميركية أن روسيا ستكون مصدرا لشحنة واحدة من كل 5 شحنات من صادرات القمح في الموسم الذي بدأ مطلع يوليو الجاري، أي ما يعادل 20 في المئة.
وعلى النقيض، ستنخفض حصة أوكرانيا عن مستوياتها قبل الحرب بمقدار النصف لتقارب خمسة في المئة، حيث تكبد الإنتاج أضرارا طويلة الأجل بسبب حقول الألغام وتعطل سلاسل الإمداد والتوريد.
وتشكل قوة روسيا المتزايدة في السوق جزءا من مجهود أوسع، فقد انسحبت منها شركات التجارة العالمية، مثل شركة كارغيل بعد أن تعرضت إلى ضغوط لإخلاء الساحة للشركات المحلية.
وأدت تلك التغيرات إلى إعطاء القوى المحلية مزيدا من السيطرة، وهو ما قد يسهل على الشركات المحلية شحن الحبوب المزروعة في الأراضي الأوكرانية المحتلة، وييسّر على موسكو التأثير على الأسعار.
ونقلت وكالة بلومبرغ عن سكوت رينولدز أستاذ التاريخ بجامعة جورجيا قوله إن “أهمية الحبوب لا تكمن في توفير الغذاء للروس فحسب، لكنها سلعة التصدير الأساسية التي تعزز قوة روسيا الناعمة”.
وأضاف “أن تكون أكبر مُصدر للقمح في العالم هو إنجاز تفهمه موسكو جيدا”.
وبحسب بيانات نشرتها الأمم المتحدة فقد صدّرت روسيا حبوباً بقيمة 10 مليارات دولار في العام السابق على الحرب.
وفيما تبدو قيمة تلك الصادرات قليلةً مقارنة بالإيرادات الهائلة من الطاقة، إلا أن أهميتها تتجاوز الدخل، فالمستورد الأساسي هي دول في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي امتنعت عن الانضمام إلى العقوبات أو معارضة موسكو بشكل مباشر في الأمم المتحدة.
ويقول كريستوفر غارنفيل الدبلوماسي السابق والعضو المنتدب في شركة تي.أس لومبارد للبحوث إن التوجه العام في روسيا هو الحفاظ على دول الجنوب العالمي إلى جانبها.
وتسلك إستراتيجية روسيا للقمح مسارا معروفا، وذلك عبر كسب حصص في الأسواق، ثم استخدام ذلك في دعم نفوذها.
ولكن اتفاق الممر الآمن لتصدير الحبوب الذي طرحته أوكرانيا، والذي وافقت عليه موسكو بعد ضغط دولي هائل بعد الحرب، يتعرض الآن للخطر.
وألمح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الشهر الماضي إلى أن بلاده تدرس الانسحاب من الاتفاقية التي تسمح لأوكرانيا بشحن صادرات الحبوب من موانئ البحر الأسود. وأكد أن روسيا “خُدعت مرة أخرى”.
وقال حينها “نفكر الآن في كيفية الانسحاب من اتفاقية تصدير الحبوب تلك. وصدّقت روسيا على الاتفاق لدعم الدول النامية – أصدقائنا، ولرفع العقوبات عن قطاعنا الزراعي”.
ولا توجد عقوبات مباشرة على محاصيل روسيا الزراعية، لكن العقوبات على البنوك أفضت إلى مشكلات في التمويل واللوجستيات لشركات تصدير الحبوب.
ومع بدء حصاد محصول ضخم من القمح، ينتظر أن تصدر روسيا كميات قياسية للعام الثاني تواليا، بعدما أدى محصولها الوفير ومخزوناتها الهائلة إلى تدهور الأسعار، لاسيما أن الدولة تتقاضى سعراً أقل على محصولها مقارنة مع الدول الكبيرة الأخرى المنتجة.
غير أن موسكو تناور للحد من تلك التخفيضات السعرية واكتساب مزيد من السيطرة على قطاعها الزراعي.
وحث حكام أكبر المناطق إنتاجاً للحبوب في روسيا، إلى جانب شخصيات من أصحاب النفوذ في قطاعي التمويل والأسمدة، الكرملين في العام الماضي على فرض قيود على دور الشركات الأجنبية في صادرات الحبوب.
وقررت كارغيل وفيتيرا، أكبر شركتين غربيتين لتصدير الحبوب الروسية، في مارس الماضي إنهاء العمليات التي بدأتاها في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي.
كما انضمت شركة لويس دريفوس إلى موجة الهروب، والتي ستسري بدءا من يوليو، حيث يمثل انسحاب الشركات الغربية فرصة للتجار المحليين لفرض مزيد من السيطرة على السوق.
ومع ذلك يعتقد خبراء أن الموقف محفوف بالمخاطر للمشترين، فضم روسيا للمناطق الأوكرانية يعني أن بعض الكميات القادمة من المناطق المحتلة تُخلط مع الحبوب الروسية.
ووفقا لتقرير نشرته وكالة تاس مؤخرا نقلا عن وزير الزراعة الروسي دميتري باتروشيف فإن تلك الكميات تقدر بنحو ثلاثة ملايين طن في 2023.
وفي حين استبعد بعض التجار التعامل مع كميات القمح القادمة من المناطق المحتلة، فقد يصبح تتبع هذه الكميات أشد صعوبة مع زيادة دمج تلك المناطق في خطوط الإمداد الروسية. وقد دعت أوكرانيا الجهات المستوردة إلى مصادرة أي حبوب مشكوك في أمرها.وزادت جرأة روسيا في استعراض قوتها، وتحاول فرض حد أدنى لأسعار الصادرات. وكشفت مصادر مطلعة لوكالة بلومبرغ، لم تكشف هويتها، أن موسكو سعت في يونيو الماضي لإقرار حد أدنى قيمته 240 دولاراً للطن.
ويهدف الحد الأدنى لمساعدة المزارعين الذين عانوا في صيانة الجرارات والحصول على العمالة في ظل انتشار القوات على نطاق واسع بسبب الحرب.
لكن القمح سلعة متقلبة السعر ولها العديد من الموردين، وتعيّن على روسيا خفض الحد الأدنى غير الرسمي للسعر عن 275 دولارا للطن في مارس، بعد انخفاض الأسعار في أوروبا.
◙ 20 في المئة من حجم الشحنات العالمية ستستحوذ عليها روسيا في 2023 وفق وزارة الزراعة الأميركية
وتعليقا على ذلك قالت إيلين دوفلو محللة سوق الحبوب في شركة ستراتيجي غرينز “لا يوجد خيار أمام روسيا إلا الرضوخ لضغط السوق”.
وفي خضم ذلك ما تزال جهود السيطرة على السوق مستمرة، فقد أكدت المصادر المطلعة أن أحد التجار عرض حبوبا روسية على مصر بسعر منخفض للغاية.
وذكرت المصادر أن الاستياء الرسمي تجلى عندما رفضت وزارة الزراعة الموافقة على الصفقة، فيما يعتزم التاجر عرض القمح الروماني بدلاً من الروسي.
وقال إدوارد زرنين رئيس اتحاد مصدري الحبوب في روسيا، إن “الفائز بالمناقصة لم يراع مصالح منتجي القمح في البلاد”، وحذر من أن بلاده لا تعتزم بيع القمح بأسعار منخفضة إلى درجة غير معقولة.