كريتر نت – متابعات
لا يرى المحللون الروس أن يفغيني بريغوجين رئيس مجموعة فاغنر الروسية المسلحة، يمتلك مستقبلا سياسيا في البلاد، رغم أنه نجح في فرض نفسه على دوائر الفكر وصناعة القرار داخل روسيا وخارجها، بفضل الدور الكبير الذي تلعبه مجموعته في الحرب الروسية ضد أوكرانيا، وهجومه المستمر على دوائر النخبة الروسية بما في ذلك قادة المؤسسة العسكرية.
وفي تحليل نشره موقع مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي قال المحلل السياسي الروسي أندري فالديميروفيتش كولسينكوف إن بريغوجين هو أكثر من يمثل الجوهر المعادي للنخبة السياسية الشعبوية، الذي عرف سابقا بلقب “طباخ بوتين” باعتباره مالكا لسلسلة مطاعم وشركات توريدات غذائية تورد الطعام للكرملين، ثم اشتهر حاليا برئاسته لمجموعة فاغنر المسلحة سيئة السمعة.
وجعل رجل الأعمال الروسي من “العملية الخاصة” ضد أوكرانيا والتي يرى أنها حرب شاملة، الدعامة الأساسية لهويته، ووسيلة للاصطفاف مع الروس العاديين وليس مؤسسات الحكم بما في ذلك وزارة الدفاع. وعندما أعلنت وزارة الدفاع الروسية مؤخرا ضرورة توقيع كافة المقاتلين المتطوعين إلى جانب روسيا على عقود رسمية مع الوزارة، سارع بريغوجين إلى إعلان رفض توقيع رجال فاغنر على هذه العقود، قائلا إنها لن تؤدي إلا إلى إضعاف كفاءة شركته العسكرية الخاصة.
ويقول بريغوجين إن السياسيين الروس هم الذين بدأوا “العملية العسكرية الخاصة” وهو الاسم الرسمي الذي تطلقه روسيا على غزو أوكرانيا، لكنهم أصبحوا عاجزين عن إتمام ما بدأوه. والآن فإن القطاع الذي يمثله بريغوجين نفسه هو القادر على تحقيق الانتصار وإنهاء القتال.
ويقول كولسينكوف الذي عمل نائبا لرئيس تحرير صحيفة نيويورك تايمز الأميركية في تحليله، إن زعيم مجموعة فاغنر المسلحة يعتبر زعيما يخاطب الشعب دون وسطاء، كما يفعل الزعيم الشعبوي والقائد الحقيقي الذي وصفه المفكر السياسي الألماني كارل شميت في ثلاثينات القرن العشرين.
لكن المشكلة الآن تكمن في وجود زعيم آخر لروسيا من نفس النوعية وهو الرئيس فلاديمير بوتين. ورغم أن الأخير لا يتجول بين الخنادق على جبهات القتال ولا يظهر في لقطات مصورة إلى جوار جثث المقاتلين القتلى كما يفعل بريغوجين، فإن إدعاءه الزعامة ينطلق من اتصاله المباشر والبديهي مع “الشعب”.
وفي الوقت نفسه فإن بريغوجين يتحرك في مساحة مليئة بالتناقضات. فهو يرسل باستمرار رسائل مناوئة للنخبة وللمؤسسة الحاكمة إلى الشعب، في حين أنه ومثل كل أفراد الأوليغارشية الروسية مدين بكل ما حققه من ثروة ونفوذ لعلاقاته مع السلطة وتعاقداته مع الحكومة.
ورغم تزايد حضور بريغوجين الشعبي وخطابه الشُعبوي، فإن وجود هذا الرجل حليق الرأس سيستمر طالما كان مفيدا للرئيس بوتين، وطالما استمرت مغامراته الغريبة ممتعة لرأس الدولة. وحتى جولة بريغوجين في روسيا تحت عنوان “فاغنر: جبهة ثانية” تمثل محاكاة كاريكاتورية لشخصية شعبوية روسية أخرى وهي الزعيم المعارض المحبوس ألكسي نافالني.
وأصبح بريغوجين شخصية معروفة بشكل متزايد، لكن بالنسبة إلى أغلب الشعب الروسي، فإن السياسي هو ذلك الشخص الذي يعينه بوتين للقيام بدور سياسي محدد، أو يرأس جهة رسمية، كحزب أو إحدى مؤسسات السلطة. وبالنسبة لأغلب الروس العاديين الذين لم يتابعوا التحول السياسي لهذا الرجل، فإنهم لا يعرفون بشكل واضح من هو بريغوجين.
وفي الوقت نفسه، يجد الكثير من الروس أن الأسلوب الفظ لبريغوجين السجين السابق غير مقبول. وهنا يجدر التذكير بأن المجتمع الروسي رغم كل شيء مجتمع عصري وحضري ويتبنى اقتصاد السوق بدرجة كبيرة. ولذلك من غير المرجح أن تجد دعوات بريغوجين للتعبئة العامة وللتضحية الشعبية الكبيرة من أجل تحقيق نوع من النصر، والعودة إلى الاقتصاد المخطط والعمل بعقوبة الإعدام وجعل حياة الشعب الروسي أشبه بكوريا الشمالية، قبولا كبيرا.
وباعتباره رئيسا لشركة عسكرية خاصة مخيفة مثل فاغنر، يقدم “طباخ الرئيس” نفسه باعتباره قائدا عسكريا ناجحا. لكن نجاحاته وآخرها الاستيلاء على مدينة باخموت الأوكرانية، تحققت بخسائر فادحة في الأرواح وهو ما اعترف به شخصيا، مع استخدام السجناء كوقود لنيران الحرب.
وفي النظام السياسي الحالي، يمكن أن يكون بريغوجين ضد النخبة ويستفيد من ذلك شعبيا، طالما يعمل لصالح بوتين. ولن يحتاج الأمر إلا لإشارة بسيطة من بوتين لكي يختفي رئيس فاغنر من الفضاء الإعلامي، وغيره من الفضاءات بالطبع، ولن يحدث في هذه الحالة تمرد شعبي ولا احتجاج من جانب السجناء الذين يعملون تحت رئاسته في فاغنر.
كما يمكن إخماد كاريزما بريغوجين بالطريقة المعتادة في روسيا منذ انهيار الاتحاد السوفيتي. فعلى سبيل المثال كان التخلص من أي معارض شيوعي يتم عبر تحويله إلى مسؤول حكومي باهت بلا سمة مميزة، حيث كان يتم تعيينه في منصب اقتصادي، لكي يظهر أمام الشعب أنه كان يتحدث عن فشل الحكومة ومسؤوليها، فلما أتيحت له فرصة تولي المسؤولية لم يحقق أي نجاح هو أيضا.
وفي مثل هذا الموقف، سيكون من الأفضل بالنسبة إلى رئيس فاغنر العودة إلى صفوف “طهاة الكرملين” لكن هذا المنصب لم يعد متاحا بالنسبة إليه. فبعد أن حقق الرجل صعوده المهني عبر مذبحة دامية، لم يعد أمامه خيارات كثيرة يمكن أن ترضيه. فبعد أن أصبح شخصية مشهورة تحظى بشعبية واسعة في البلاد لن يقبل بالعودة إلى العمل في الظل مرة أخرى.
وربما تكون لدى زعيم المرتزقة الروس طموحات انتخابية، لكن من الصعب أن تتحقق هذه الطموحات في ظل غياب إجراءات انتخابية طبيعية في روسيا، وأيضا لأنه شخصيا لا يعرف ماذا يريد.
وأخيرا يقول كولسينكوف، وهو مؤلف سلسلة كتب عن السياسي الروسي أناتولي تشوباس، إن هناك أمرا واحدا مؤكدا وهو أن بريغوجين لن يستطيع إنقاذ الأمة الروسية، ولن يكون ونستون تشرشل الذي وعد أمته “بالدم والكد والدموع والعرق” لتحقيق النصر في الحرب العالمية الثانية، ربما لأنه لا يكون لدى السياسيين ذوي العقلية الدكتاتورية هدف سوى السلطة من أجل السلطة. كما أن أغلب الروس غير مستعدين للموت من أجل طموح شخص في السلطة ولا من أجل حياة تشبه الحياة في كوريا الشمالية.