يوسف بن مير
تحولت أراض مهملة ليهود مغاربة إلى مشاتل لأشجار مثمرة تساعد المزارعين المسلمين في المناطق الداخلية على زيادة عائداتهم الزراعية، ويعود هذا النشاط الجمعياتي إلى عدد من المنظمات وهو ما يعكس روح التسامح بين مكونات المجتمع المغربي.
قبل تسعة وعشرين عاما كنت متطوعا في هيئة السلام، حيث كنت أقطن قرية جبلية في الأطلس الكبير تعرف باسم أمسوزارت، الواقعة بالقرب من الجزء الجنوبي من المنتزه الوطني “توبقال” في المغرب.
في ذلك الوقت كانت الرحلة من القرية إلى أقرب مركز في المدينة تستغرق ما يقارب 20 ساعة من السفر عبر الطرق غير المعبدة والممرات الجبلية. عند سفح جبل، على بعد خمسين كيلومترا من أمسوزارت، كنت ألمح أحيانا ضريحا أبيض قديما بدا كأنه في غير محله، إذ يختلف عن باقي المنازل المبنية من الطوب الترابي التي تتميز بها المناظر الطبيعية القروية المغربية.
عندما كنت أمعن النظر في هذه المنطقة الجبلية المتآكلة، كنت أتخيل مساحات شاسعة من مدرجات مبنية على مقربة من الضريح لفائدة المجتمع المحلي المسلم بهدف إنشاء مشاتل الأشجار والاستفادة من منافع قد تمتد لأجيال. تكتسي مشاتل الأشجار أهمية كبيرة بالنسبة إلى المجتمعات الزراعية المغربية كون 70 في المئة من الأراضي الزراعية في البلاد تنتج 10 – 15 في المئة فقط من عائدات المنتوجات الزراعية.
وتخول زراعة أشجار الفاكهة للأسر الزراعية الاستغناء عن محاصيل الشعير والذرة الأقل ربحا وتحقيق دخل أوفر.
علمت لاحقا أن الضريح هو قبر لولي يهودي “الولي الصالح كما يعرف عند المسلمين” يدعى دافيد أو موشي، وهو واحد من أكثر من 600 ولي صالح (مسلم ويهودي ومسيحي) ممن دفنوا في جميع أنحاء المغرب.
أدركت أن الأراضي المحيطة بهذه المقابر يمكن الاستفادة منها لإنشاء مشاتل الأشجار في المستقبل، مما قد يسمح بإنتاج عشرات الملايين من الشتلات سنويا.
من شأن المشتل المخطط بناؤه بالقرب من أمسوزارت ونجاح مشروع أقريش أن يجسدا واقع التضامن بين الأديان في المغرب
كيف أدركت أن الناس يريدون الأشجار؟ عندما كنت متطوعا في هيئة السلام تم تدريبنا على الاستماع إلى الناس. وهكذا، فإن هذا المشروع وعمل المنظمة التي شاركت في تأسيسها في عام 2000، مؤسسة الأطلس الكبير، يرتكزان على تحديد المجتمعات المغربية لمشروعها التنموي وتصوراتها المستقبلية بنفسها.
وكثيرا ما يعجز أصحاب الأراضي الصغيرة عن تحديد الموارد التي تحتاجها القطع الأرضية بالمشاتل على مدى السنتين اللازمتين لكي تنمو بذور أشجار الفاكهة. إذ يتعين عليهم استغلال كل متر مربع متاح لتحقيق المحصول الموسمي من أجل الحفاظ على مصادر رزقهم. وبالتالي، فإن السؤال الذي طرح آنذاك ولا يزال مطروحا بالنسبة إلى المجتمعات القروية هو من أين نحصل على الأراضي لإنشاء مشاتل تسهم في زيادة عائداتنا الزراعية؟
نيابة عن العائلات الزراعية، تواصلت مع الطائفة اليهودية بالمغرب لطلب تأجير الأراضي بهدف إنشاء مشاتل الأشجار. وعلى الرغم من أنهم وافقوا على ذلك كان المشروع لا يزال بحاجة إلى التمويل. مرت سنوات عديدة، ولم يتم إنجاز المشروع بالموقع المقصود في الأصل على الرغم من إطلاق مشروع مشتل تجريبي ناجح في أقريش، إقليم الحوز، بالقرب من مراكش في موقع دفن الصديق رافائيل هكوهين.
تحفز المشاتل المجتمعية بناء مسار تنموي جديد نحو الاستدامة الاقتصادية والبيئية. فعلى سبيل المثال، ساهم مشتل الأشجار بأقريش (بمساعدة مالية من إيكوسيا وفينيليك) في تنظيم ورشات عمل لتمكين النساء وخلق تعاونية أشبارو النسائية المجاورة لنسج الزرابي، وبناء طريق معبد بين المشتل/المقبرة والتعاونية، مما سيسمح للزوار بالوصول بسهولة إلى كلا الموقعين، إضافة إلى تزويد قرية أشبارو بنظام مياه الشرب النظيفة (بتمويل من إيف سان لوران فاشن). ولذلك يتعين على المؤسسات أن تنسج شراكات مع هذه المجتمعات المحلية والمساهمة في الحصول على الأراضي بهدف تحفيز تنفيذ مشاريع التنمية البشرية خارج القطاع الزراعي.
في السنوات الأخيرة تلقى المجتمع الدولي درسا قاسيا ذكّره بأن جزءا كبيرا من العالم لا يعكس نموذج المغرب الملهم للتضامن الديني والثقافي.
قبل أن يشنوا هجومهم كان مرتكبو هذه الجرائم الشنيعة، في مسجدين في كرايستشيرش بنيوزيلندا عام 2019 وكنيسة “إيمانويل الأسقفية الميثودية الأفريقية” في ساوث كارولينا عام 2015 وكنيس” شجرة الحياة” في بيتسبرغ عام 2018، قد استقبلوا بعبارات حارة: “السلام” و”مرحبا” و”شالوم”.
ومن شأن المشتل المخطط بناؤه بالقرب من أمسوزارت (ونجاح مشروع أقريش) أن يجسدا واقع التضامن بين الأديان في المغرب الباعث على الأمل. وهكذا، وبصفتي رئيسا لمؤسسة الأطلس الكبير، قررت أن أكتب رسالة موجزة إلى العاهل المغربي الملك محمد السادس، جاء فيها:
“نكتب هذه الرسالة ونحن متأثرون بما يحدث في هذه الأوقات العصيبة، ونؤمن إيمانا تاما بإمكانية المغرب إعادة توجيه مسار الإنسانية، على عكس أي دولة أخرى، بقدرته على التأكيد على وحدة روافده المتعددة وفي نفس الوقت تخفيف عبء الشعوب. يمكن لهذا المشروع المساهمة في تحقيق كل هذا”.
سلمت الرسالة شخصيا إلى القصر الملكي في الرباط. في غضون شهر، دعانا والي ورزازات إلى الاجتماع ومناقشة تنفيذ مشتل الأشجار هذا مع المدراء الإقليميين لجميع المؤسسات العمومية ذات الصلة ومنظمتنا. تمسكت بحلم هذا المشتل لمدة خمسة وعشرين عاما. وقد بدأت أشغال بنائه بعد شهرين من مناشدتنا للملك، حيث تم توفير ثلثي التمويل من قبل المبادرة الوطنية للتنمية البشرية في المغرب، وهي إستراتيجية للمانحين تم طرحها لأول مرة في عام 2006.
بالإضافة إلى الطائفة اليهودية المغربية، تحصل مؤسسة الأطلس الكبير أيضا على أراض عينية عمومية من الوكالة الوطنية المغربية للمياه والغابات، مما أتاح زراعة 4 ملايين شجرة منذ عام 2003 حتى يومنا هذا. استغرقت زراعة أول مليون شجرة 14 عاما. في عام 2023 وحده تقوم مؤسسة الأطلس الكبير بنقل 1.7 مليون شجرة من 15 مشتلا لصالح 10.000 أسرة زراعية في 160 بلدية وإنشاء أربعة مشاتل جديدة.
ويقع اثنان من هذه المشاتل الجديدة على أرض للطائفة اليهودية المغربية (50 في المئة بتمويل من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية)، بجوار موقعي دفن الحاخام الصديق مول الماي في سيدي رحال، بضواحي مراكش، والحاخام هارون أبو حصيرة بتلوات، في إقليم ورزازات. وكان قد أطلق عامل إقليم الحوز، يونس البطهاوي، على مبادرة أشجار الفاكهة العضوية المشتركة بين الأديان اسم “بيت الحياة” وهو الاسم التقليدي للمقبرة اليهودية.
إضافة إلى ذلك تقوم مؤسسة الأطلس الكبير بتتبع نمو الأشجار مقابل تعويضات الكربون، حيث تشمل لائحة المشترين كلا من جامعة فيرجينيا (الدراسات الدولية)، وكلية
روبرت بوش (كلية العالم المتحد)، ومصرف المغرب، وبيرج بولك بلو سوليوشنز. يرسم هذا البرنامج معيارا جديدا للتحقق من تعويضات الكربون، ويدمج العديد من المنهجيات الحالية لإطلاق مبادرات مجتمعية من خلال ورش عمل التنمية والتمكين التشاركية، لاسيما مع النساء. وعلاوة على ذلك تستخدم هذه الإستراتيجية أصناف البذور المحلية والعضوية والمتوطنة، وتدمج الطاقة المتجددة في شكل أنظمة ضخ المياه بالطاقة الشمسية في المشاتل، وتعيد استثمار إيرادات تعويضات الكربون في مشاريع مجتمعية جديدة داخل المناطق التي أنتجت الائتمانات الكربونية، وتركز زراعة الأشجار مع الأسر الزراعية من صغار ملاك الأراضي، وأيضا مع تعزيز التضامن بين الأديان للتخفيف من حدة الفقر في المناطق القروية.
وتشجع سياسات المغرب الحوار والتواصل بين الثقافات من أجل تحقيق التنمية البشرية. وتجتمع مختلف المجتمعات الدينية في المغرب لتبادل قصصها التاريخية، ما قد يؤدي إلى تحسين سبل العيش والصحة من خلال نهج التنمية التشاركية والاستفادة من القدرات غير المستغلة. ومع ذلك، فإن هذه التجارب الضرورية لتمكين وتعزيز النمو المستدام نادرة جدا حتى يكون لها تأثير على التحول الاجتماعي. ويعزز مشروع “بيت الحياة” استمرارية التعاون بين الأديان، وهو أمر أساسي لتحقيق التغيير الاجتماعي من خلال توفير الأشجار اللازمة ودعم المشاريع المجتمعية الناشئة.
وفي حين أن الذاكرة متعددة الثقافات والوعي الثقافي في البلاد يخلقان فرصا عديدة، فإن الجمع بين هذه العوامل لم يصل بعد إلى تحقيق مستوى التنمية المعتمدة على الذات والاقتصاد الدائري الذي يحتاجه الناس بشكل عاجل. ومن خلال برنامج ذاكرة التابع للوكالة الأميركية للتنمية الدولية تسعى منظمات المجتمع المدني والمؤسسات العمومية إلى معالجة النقص في مثل هذه الحوارات المجتمعية التشاركية التي يناقش فيها الناس الماضي والمستقبل معا ويخلقون رؤية مشتركة للمضي قدما.
ويتمثل التحدي الأكثر أهمية للتخطيط التشاركي في الحاجة إلى المزيد من التدريب على تيسير الحوار المجتمعي لتمكين جميع الأصوات والتعبير عن جميع الأولويات. وفي حين أنه يمكن استخدام أساليب وأنشطة متعددة لاستكشاف الهوية الشخصية والجماعية ووضع خطط مستقبلية، فإن معظم الناس، بمن فيهم المغاربة، لم يسبق لهم أن جربوا هذه الأساليب، وبالتالي فهم غير قادرين على بدء عملية الحوار وإدارتها.
ويمكن للحوار بين الأديان -الذي يحمل فرصة التعبير عن تاريخنا- أن يعمق التفاهم بين الفئات المتعادية تاريخيا ويسهم في الصلح بينها إذا تم السعي إلى تعزيزه. وعند ضمان استمرارية هذه العملية وضمان تكاملها مع المشاريع الداعمة التي يحددها ويديرها الناس بأنفسهم، يمكن أن تصبح أساسا لإنشاء مجتمعات مستدامة ومزدهرة.
في المغرب تثلج الروابط بين مختلف الأديان الصدر ولكنها تتطلب مجهودا كبيرا والتزاما لتحقيقها. وباتباع هذا النهج المغربي لتجاوز الاختلافات الدينية، يمكننا إلهام دول أخرى في أفريقيا والعالم الإسلامي والشرق الأوسط.
المصدر العرب اللندنية