كريتر نت – متابعات
في 27 مايو الجاري يتم مستشار الأمن القومي الأسبق، ووزير الخارجية الأميركي الأسبق، هنري كيسنجر، الدبلوماسي وعالم السياسة الشهير، عامه الـ100. وقد كانت حياته مديدة وحافلة، بإنجازات استثنائية في عالمين يتسمان بالتنافسية الشديدة، هما عالما الدبلوماسية والأفكار.
يقول الإعلامي المغربي أحمد الشرعي، عضو مجلس إدارة المجلس الأطلسي، في تقرير نشرته مجلة ناشونال إنتريست الأميركية، إن كيسنجر فرّ من ألمانيا النازية، ليصل إلى أميركا في عام 1938، حيث كان آنذاك مراهقا مثقفا، دون أيّ آفاق منفتحة أمامه. ولكن بعد ثلاثة عقود، تولى كيسنجر دفة السياسة الخارجية للولايات المتحدة، مستشارا للأمن القومي، ثم وزير خارجية من طراز خاص، في إدارة الرئيسين ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد. وقد فاز بجائزة نوبل للسلام في عام 1973.
وخلال السنوات الأربع التي شغل فيها منصب وزير الخارجية (1973 – 1977)، ساعد كيسنجر في إنهاء حرب فيتنام، والتي كانت أكثر حرب مثيرة للجدل خاضتها الولايات المتحدة، كما نجح في إبعاد الصين عن الاتحاد السوفييتي، وأعاد ترسيم حدود العديد من الدول القومية.
وتظل كتب كيسنجر، المفعمة بالبحث الدقيق والحجج الوثيقة، ضمن قوائم المؤلفات الأكثر مبيعا، وتجذب انتباه القادة والمفكرين في أنحاء العالم. وبعد عقود من رحيله عن منصبه، لا يزال كيسنجر مصدرا للمشورة يلجأ إليه العديد من الرؤساء التنفيذيين، ومرشحو الرئاسة، وكثيرون آخرون.
وخلال حفل استقبال نظمه مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية، على شرف كيسنجر للاحتفاء بإنجازاته المذهلة، بدأ رئيس المركز جون هامر بمراجعة للتاريخ، وكيف ترك كيسنجر بصمته عليه. وهامر هو أحد أكبر المستنيرين داخل المؤسسة الأميركية.
كانت البداية من حرب فيتنام. فمع اقتراب انتخابات الرئاسة الأميركية لعام 1968، تحولت فيتنام إلى مأزق مروع للأميركيين. وبدأ العام بـ “هجوم تيت” الضخم الذي شنه ثوار الشمال، وتمكنت الولايات المتحدة وفيتنام الجنوبية من صده.
وبحلول سبتمبر من نفس العام، بدأت الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام، في الانحسار كقوة قتالية منفصلة، ولكن ذلك لم يشكل انتصارا لأميركا. وكان الفيتكونغ حركة مقاومة مسلحة ضد الحكومة في جنوب فيتنام. وفي الوقت نفسه، صار “جيش فيتنام الشعبي” (الجيش الفيتنامي الشمالي) قوة فتاكة على نحو متزايد، بفضل الدبابات والطائرات السوفييتية، والصواريخ المضادة للطائرات. وكان من المؤكد آنذاك أنه طالما أن الاتحاد السوفييتي، في حينه، والصين يدعمان الشمال، فلن تتمكن الولايات المتحدة من هزيمته.
لقد كان مأزق الولايات المتحدة في فيتنام مروعا، والانقسام صارخا في الداخل الأميركي، بين مناهضي الحرب ومؤيديها.
وقاد كيسنجر محادثات السلام، وانهارت فيتنام الجنوبية في عام 1975، وقبل ذلك بعامين، استطاع الجيش الأميركي تنفيذ انسحاب آمن، حفظ له كرامته وماء وجهه، قبل كل شيء.
◙ الاختراق الصيني
وتدين الولايات المتحدة لكيسنجر بالفضل في سياسة التقارب الشهيرة مع الاتحاد السوفييتي، فلأول مرة، اتفقت أميركا والسوفييت على إبطاء وتيرة سباق التسلح النووي بشكل كبير، وهو ما تراجعت معه وتيرة التصعيد في العديد من النزاعات الإقليمية، وتجنُب اندلاع حرب نووية، وإنقاذ الأرواح في جنوب شرق آسيا وجنوب أفريقيا وفي جزر المحيط الهادئ، وفي كل موقع آخر خاض فيه رجال العصابات الشيوعية قتالا ضد القادة المحليين الذين خلفوا القوى الاستعمارية في الحكم.
وسعت إدارة الرئيس الأميركي نيكسون إلى التقارب مع البر الرئيسي الصيني، وليس تايوان فقط، من أجل تعزيز مكانة الولايات المتحدة في آسيا، بعدما كانت واشنطن نأت بنفسها عنه منذ عام 1949 عندما انتزع الشيوعيون مقاليد السلطة في البلاد. وقام نيكسون بزيارة رائعة إلى الصين في فبراير عام 1972، أذنت بفتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين، بعد انقطاع تجاوز العقدين.
ويستدعي الشرعي دور كيسنجر الرئيسي في التوصل إلى سلام بين مصر وإسرائيل، حيث يقول إنه عقب اندلاع حرب 6 أكتوبر 1973 بين مصر وإسرائيل، اتصل الإسرائيليون به وأخبروه أنهم يتعرضون لاجتياح، حيث هاجمتهم القوات المصرية في سيناء، والقوات السورية من الشمال: لقد بدأت لتوها الحرب الرابعة بين العرب وإسرائيل. وبعث الرئيس نيكسون كيسنجر للتفاوض مع إسرائيل ومصر وسوريا، فيما عرف بـ “الدبلوماسية المكوكية”.
◙ الولايات المتحدة تدين لكيسنجر بالفضل في سياسة التقارب الشهيرة مع الاتحاد السوفييتي
وتم في نهاية المطاف التوصل إلى سلام جديد، ودائم هذه المرة، وهو ما خدم بعض المصالح الأميركية المهمة: حيث توقفت دائرة “الغزوات”، وانتهى الحظر الذي كانت فرضته الدول العربية على تصدير النفط، وجرى تمهيد الطريق أمام التوصل إلى معاهدة سلام تاريخية بين إسرائيل ومصر (اتفاقية كامب ديفيد في عام 1979، في ظل إدارة الرئيس الأسبق جيمي كارتر). وربما كان كيسنجر الفائز الوحيد بجائزة نوبل للسلام (1973) الذي حقق مزيدا من السلام بعد تلقيه الجائزة، عن ذي قبل.
ويرى الشرعي أن هذه النجاحات جعلت من كيسنجر دبلوماسيا ذا مكانة تاريخية، حيث إن مبادراته الدبلوماسية الناجحة – بمعنى أنها جميعا أفضت إلى اتفاقيات – لم يكن لها مثيل في التاريخ الأميركي، وربما في تاريخ إسرائيل. لقد ترك كيسنجر بصمته على القرن العشرين بما حقق من معجزات دبلوماسية.
ومن المؤسف أن المناخ السياسي الحالي لا يشجع على بزوغ زعماء بحجم كيسنجر، الذي يجسد كتابه عن “القيادة” أهمية بناء توافق في الآراء حول القضايا الرئيسية: فلا يمكن لزعيم سياسي تطوير رؤية تمنحه مكانة رجل دولة بتغريدات أو منشورات عبر موقع فيسبوك. وبدلا من ذلك، بحسب ما كتبه كيسنجر، تصنع الدراسة الحذرة للتاريخ الزعماء.
وتعاني جميع الديمقراطيات من العلة نفسها: طبقة سياسية تتسم بفقر في الفكر، مهووسة باستطلاعات الرأي وشبكات التواصل الاجتماعي، أكثر من انشغالها ببناء رؤية لمجتمعاتها.
ويشير الشرعي إلى معضلة يتعين حتى على المفكرين على المدى القصير النظر فيها، ألا وهي: كيف يمكن للولايات المتحدة الاستمرار في قيادة العالم دون قادة يجمعون بين النظرية الراقية، والبراغماتية الراسخة، كما فعل كيسنجر؟