كريتر نت – متابعات
أظهرت مباريات كرة القدم التي جرت مؤخرا في مصر حدة الصدام بين ألتراس المشجعين والحكومة. وهذا الصدام يكشف بدوره أزمة في التعامل مع الشباب، حيث يدخل رجال الشرطة كل مرة في مواجهة مع المشجعين الذين يصرون على سلوكيات ترفضها دوائر حكومية وترى فيها تهديدا لها ومساسا بالدولة والنظام السياسي.
وأوجدت عودة الجماهير إلى المدرجات المصرية منغصات أمنية وسياسية للحكومة، وأحيت صداما قديما بين الشرطة وروابط المشجعين المعروفين باسم “الألتراس”، عقب مضايقات تعرضوا لها وتكرار مطالبتهم بالحرية التامة في التشجيع.
وأصدر ألتراس نادي الزمالك بيانا حادا هاجم فيه وزارة الداخلية، واختار له عنوان “الغباء هو تكرار فعل نفس الشيء عدة مرات وتوقع نتائج مختلفة”، وكان ذلك في تعليقه على مضايقات عناصر من الأمن لجمهور النادي الأهلي خلال مباراة فريقه مع فريق الرجاء المغربي في الدور نصف النهائي لبطولة دوري أبطال أفريقيا، السبت، وبث مشاهد لاعتداءات لفظية على بعض الشباب وإسكاتهم عن التشجيع.
قال ألتراس “زملكاوي” إن الأوضاع الحالية التي يملؤها التضييق لا يجب أن تمر مرور الكرام، ويصعب لأي شخص يمتلك كرامة أن يقبل “الذل والإهانة” في مقابل المتعة، ولا نزال متمسكين بإبعاد وزارة الداخلية عن تنظيم المباريات، وزعم البيان أن هناك تعاملا “غير آدمي” يحدث مع البعض، وتصرفات لا يقبلها أحد، واعتداءات بالقوة على أفراد من الجماهير.
ولوّحت رابطتهم بإمكانية حدوث صدام مع الشرطة، وزعمت أن استمرار الوضع الراهن “لا يضمن أمنا ولا أمانا ويزيد من الاحتقان والشحن داخل نفوس الشباب الذين لا يجدون سوى المدرجات وكرة القدم لتفريغ طاقتهم”، باعتبار أن مثل هذه التصرفات تقود إلى المزيد من الكوارث داخل المدرجات وخارجها.
دعمت الكثير من روابط المشجعين بيان ألتراس الزمالك وسط مطالبات بمقاطعة المدرجات إلى حين وضع حد للتدخلات في الشأن الكروي لتجنب وقوع اشتباكات وصدامات عنيفة، في حين صمتت أجهزة الحكومة عن التعليق، وخرجت بعض الأصوات الإعلامية المقربة منها بانتقادات حادة للألتراس، طالما أنه وصل به الحال إلى “تهديد الدولة”.
وتعتقد دوائر سياسية أن عودة الجمهور إلى المدرجات كانت رسالة قوية من النظام بأن الأوضاع الأمنية مستقرة، وامتلاء “ستاد القاهرة” بالمشجعين في مباراتي الأهلي مع كل من الهلال السوداني ثم الرجاء المغربي مؤخرا، أمر مطلوب لتكريس هذه الحقيقة.
لكن المعضلة تكمن في ممارسة بعض رجال الأمن تصرفات جعلت الاحتقان القديم بين وزارة الداخلية وروابط مشجعي الأندية يطفو مجددا على السطح، ومدى مخاطر ذلك سياسيا.
وشهدت مباراة الأهلي والرجاء المغربي التي أقيمت في “ستاد القاهرة”، السبت الماضي، حضور نحو 65 ألف مشجع، لكن عموم المتابعين للشأن الرياضي في مصر فوجئوا بصمت الجمهور طوال فترة المباراة، ما تم تفسيره بعد ذلك بأن الصمت كان موقفا احتجاجيا من المشجعين ضد تصرفات بعض أفراد الأمن الذين قاموا بتصرفات مرفوضة ضد بعض الجماهير في المدرجات.
ويعكس الخلاف بين الأمن وروابط مشجعي الأندية عمق الأزمة التي تعانيها الحكومة في علاقتها مع الشباب عموما، فهي ترغب في إجبارهم على مسار محدد والاستسلام للأمر الواقع والالتزام بضوابط معينة بحجة حماية الأمن والاستقرار، مع أن الهتافات التي يطلقها جمهور الكرة لا علاقة لها بالنظام ولا يجب أن تكون على مقاس الحكومة.
كما أن هناك تباينا شاسعا بين نظرة الحكومة لعودة الجماهير إلى المدرجات، وبين تعاطي المشجعين الشباب مع الخطوة، فهي ترغب في توظيف الأمر سياسيا بأن الدولة مستقرة وآمنة بما يعطي انطباعا محليا وخارجيا بأنها نجحت في مهمة تثبيت أركان الدولة، لكن الشباب لهم مفاهيم وقناعات أخرى، بينها توظيف الحدث للتعبير عن مطالبهم وطموحاتهم وعلى رأسها الحرية المطلقة.
قال اللواء فاروق المقرحي، عضو مجلس الشيوخ ومساعد وزير الداخلية الأسبق، إن بعض شباب المشجعين يستثمرون المدرجات للتعبير عن الغضب، وهذا خطأ، ومطلوب التعامل مع هذه الفئة بحرص، وهذا ما يحدث بالفعل من أجهزة الأمن، لأن عدم وجود رابط وقواعد للتشجيع مؤشر خطر.
وأضاف لـ”العرب” أن الكوارث الإنسانية التي شهدتها مصر خلال السنوات الماضية في المدرجات تستدعي تدخل الأمن لضبط الأمور، وللأسف مفهوم الحرية مغلوط عند بعض روابط مشجعي الكرة، لذلك لابد من عقد جلسات حوارية مع قياداتهم، ولا يمكن لدولة مستقرة مثل مصر أن تمنع جمهورها من التشجيع، لأسباب واهية، لأنها تكسب سياسيا من ذلك، غير أنها لن تسمح بعودة العنف مجددا.
ومعضلة روابط المشجعين أنها لم تترك فرصة للتعاطف معها وتأييد عودتها بالطريقة التي يريدها الشباب، لأنها مع بدايات ظهورها في المدرجات بعد سنوات من الإبعاد الأمني أتت بتصرفات وهتافات عنصرية ومسيئة، كادت أن تدفع بالعلاقات المصرية – السودانية إلى الهاوية جراء ما حدث من جمهور الأهلي تجاه فريق الهلال السوداني مؤخرا، ما دفع القاهرة إلى امتصاص غضب الخرطوم عبر ترضية إعلامية مكثفة.
وتظل المشكلة الأكثر تعقيدا ذلك العداء التاريخي بين أجهزة الأمن وروابط مشجعي الأندية بعد الدور الذي سبق وأن لعبه الألتراس في الحراك السياسي خلال ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011، ومنذ ذلك الوقت وتتعامل الحكومة مع هؤلاء الشباب باعتبارهم بؤرة لإثارة التوترات الأمنية والسياسية ولا بديل عن إحكام القبضة على ملاعب كرة القدم.
وشاركت روابط الألتراس في الثورة بجسارة، ولعبت دورا فعالا من خلال حراكها التنظيمي وخبرتها في الحشد، وتم توظيفها من جانب قوى سياسية مدنية وإسلامية للتخلص من نظام مبارك وإنهاك أجهزة الأمن وتمت المهمة، لكن الشرطة لم تنس لهؤلاء هذا الموقف ولا تأمن لهم، ولا تترك لهم حرية التصرف داخل المدرجات.
اكتشفت القوى الثورية بمختلف انتماءاتها خلال ثورة يناير أن المجموعة المنظمة الوحيدة في مصر التي لديها خبرة التنظيم وشجاعة المواجهة مع الأمن، هي شباب الألتراس، وبعد ثلاث سنوات من وصول الرئيس عبدالفتاح السيسي إلى السلطة ودخوله في حوار معهم، وتوجيه خطاب عقلاني إليهم ودعوتهم إلى الوقوف إلى جانب الدولة، أعلنت روابط المشجعين حل كياناتها وإحراق أعلامها، لينتهي الألتراس رياضيا وسياسيا في مايو من عام 2018.
يصعب فصل الصدام الخفي بين الأمن والألتراس حاليا عن وجود دوائر داخل الحكومة تتعامل مع روابط المشجعين بريبة وتعتبرها تهديدا للدولة داخل الملعب وخارجه، ويبدو أن الغلبة في الرأي كانت لهذه الدوائر بإقناع الأمن بحتمية ممارسة ضغوط على هذه الروابط ومنعها من اصطحاب الألعاب النارية واللافتات المسيئة وعدم رفع شعارات سياسية، ولذلك يتعامل الجمهور مع تصرفات ضبطهم بريبة.
كانت هناك بادرة طيبة من الأمن المصري عندما رفض الدخول إلى “ستاد القاهرة” يوم مباراة الأهلي والهلال السوداني، بعد تعهد رابطة المشجعين بعدم ارتكاب أفعال أو تصرفات أو إطلاق هتافات بعيدة عن كرة القدم، لكن رُفعت لافتات مسيئة سياسيا أحرجت الحكومة، وبدت وكأنها داعمة لما حدث.
لا تنفصل حالة الكر والفر بين روابط المشجعين وقوات الأمن مجددا عن تنامي الشعور لدى بعض دوائر الحكومة بعودة استغلالها سياسيا من جانب تيارات مناوئة، كالإخوان، عبر تسلل عناصر تستهدف تخريب العلاقة بين الطرفين أو قيادة الجماهير للهتاف بشكل مسيء وعنصري، بما يورط الحكومة سياسيا، ما من شأنه استمرار الضغينة بين الأمن والشباب والخلاف حول طريقة التشجيع والفصل بين الرياضة والسياسة.
يكاد يكون الملف الرياضي الوحيد الغائب عن الحوار الوطني الذي أطلقه السيسي للتقارب مع الفئات المجتمعية والسياسية المختلفة، مع أنه ملف حيوي وحساس بالنسبة للأغلبية الشبابية التي يشكل قوامها 60 في المئة من السكان البالغ عددهم نحو 110 ملايين نسمة، ما يشير إلى المزيد من تخبط الأولويات عند الحكومة، فهي تتقارب مع قوى حزبية لا رصيد لها في الشارع وتتجاهل الصوت الذي أسهم في الحراك الثوري في البلاد سابقا، وهم شباب المدرجات الكروية.