عزالدين عناية
يرتكز كتابي “المسيحية والإسلام في ظل العولمة” بالأساس على متابعة آثار العولمة على الدين، وتحديدا على المسيحية والإسلام. فما كانت قضايا التجاور والتضايف والتعايش مطروحة على الأديان بهذا الإلحاح، كما هو عليه الحال اليوم. فالذات المؤمنة أمام تساؤلات تمليها التبدلات الجارية في العالم الراهن، تحث أتباع الأديان على إعادة النظر في تمثلهم للعالم وفي حضورهم فيه، بعد أن عصفت بالحدود التاريخية تبدلات عميقة. تراجع التباعد إلى مستوى غدت فيه الحدود وطيئة ورخوة بين التقاليد الدينية.
وبالمثل ما عاد يفيد الأديان التحصن وراء حواجز “منيعة”، بعد أن صار الوافد حاضرا بالداخل، فعلا وقولا وقيما، يسائل عيش الذات ورؤيتها، ويشاركها واقعها ومصيرها. إذ ساهمت العولمة في زعزعة الحدود الجغرافية والمادية، التي جعلت من ذلك الإيمان الديني أو غيره لغة الخلاص لشعوب وحضارات إنسانية بأسرها، وليتماهى ذلك الإيمان مع أرض ومع أمة بعينها.
فلا مراء أن العولمة اليوم قد أضحت واقعا معيشا، يؤثر على نمط سير حياة شعوب كثيرة، سواء رضيت تلك الشعوب بذلك التحول أم أنكرته. حيث تنعكس الأوضاع المستجدة والسائرة نحو التطور المتسارع على الأديان وعلى أتباع الأديان أيضا. فالعولمة تؤثر على الأديان بفعل ما تخلفه من أثر على تقلص الانغلاق الإيماني وانعزاله في حيز جغرافي، بما جعل بعض الأديان بمثابة الهويات المميزة لجماعات عرقية وإثنية دون غيرها؛ وهي تؤثر كذلك على المؤمنين بتلك الأديان، بما تخلفه من تغير في شكل الاعتقاد، من حيث البسط والقبض، والشدة والليونة. وكذلك في معاني الاعتقاد، من حيث الانحصار والاستيعاب، والضيق والاتساع. وربما إلى حد مضامين الاعتقاد المستجدة، جراء الاحتكاك بتجارب روحية ومعيشية أخرى، ما عادت نائية في ظل حركة التواصل المتسارعة.
ذلك أن تأثير العولمة حاصل على الأديان وعلى أتباع الأديان، ولا يقتصر على الأديان الإبراهيمية أو أديان الهند والصين واليابان، بل نعاين تأثر الأشكال الجديدة من أنماط الاعتقاد التوليفية أيضا، بما يعني أن التأثير يطال الأديان المهيكلة عقديا ومؤسساتيا، وغيرها ممن تفتقر إلى تلك البنى الصلبة والصارمة.
والمسلمون من جانبهم لم يبقوا نشازا في ما يجري من تحول ديني في العالم، وما عاد بوسعهم أن يظلوا بمنأى عن تأثيرات تعولم العالم، الدافع باتجاه التكتل والقبول بالانتظام وفق قواعد جامعة، الأمر الذي انعكست آثاره على الرؤية الإسلامية لذاتها وللآخر.
صحيح أن الاستعدادات بين الأديان وبين المؤمنين، متفاوتة من تقليد ديني إلى آخر، ومن وسط اجتماعي إلى غيره، من حيث القدرة على التعايش مع المعطيات الجديدة المتصلة بالعولمة الدينية، أو من حيث توظيف الإمكانات المتاحة، أو استغلال محاسن هذا الواقع الجديد أو درء مساوئه؛ ولكن برغم هذا التفاوت تبقى سائر التقاليد الدينية معنية بما يجري من تحول هائل في الساحة العالمية، بما يمس بنى الأديان وضروب أنشطة أتباعها ذات الطابع الديني.
وبعد تعولم قضايا الإسلام تردد في الأوساط الغربية سؤال: هل يشكل الدين الإسلامي عقبة للاندماج في العالم؟ وهو سؤال طرح في العديد من المنابر ضمن طروحات الاستشراق الجديد ذات المنزع السياسي، أتى ذلك ضمن تتبع إلى أي مدى يمكن للمنظور الإسلامي تقبل الديمقراطية؟ ومن حيث تفهم مدى تلاؤم مضامين المكون التشريعي الإسلامي مع الدولة المدنية. وهي طروحات تداخل فيها المنصف بالمغرض، لكن السمة الغالبة على مجمل التساؤلات يظل ورودها ضمن سياق التوترات الأمنية، التي عاشتها الأوساط الغربية مع تشظيات الإرهاب في العالم.
لم تكن التساؤلات ولا الأحكام صادرة عن دراية عميقة بالمخزون الحضاري، جراء التراجع الذي شهده الاستشراق الغربي في العقود الأخيرة، بل عن رصد ظواهري متسرع وإقرار حصري بفشل “الإسلام الصدامي” في التعايش مع العالم. ومن هذا الباب جاء الحكم بعدم قدرة الإسلام على التعايش مع الدولة المدنية، ومع القيم الكونية التي باتت سائدة في عالمنا، ومن ثم مع الحداثة بوجه عام، نابعا من إسقاطات أيديولوجية.
الملاحظ بشكل عام، في ظل مناخات العولمة المستجدة، أن الأوضاع في العالمين الإسلامي والغربي، في الراهن المعاصر، لا تسير سيرا متوازيا على جميع الأصعدة، مع ذلك ثمة ارتباطات مصيرية بين العالمين، تفوق ما كانت عليه الأمور في وقت مضى، قبل استفحال ظاهرة العولمة. ورغم الاختلاف البين لمسار انبناء الدولة الحديثة ضمن السياق الغربي عن نظيره في السياق الإسلامي، فإن قضية علاقة الدين بالسياسة وبالمجال العمومي، هي من الإشكاليات المطروحة على الجانبين وإن تفاوتت الأشكال والمضامين.
فمنذ نصف قرن أو يزيد، طرأ تبدلٌ هائلٌ على الأوضاع في العالمين الغربي والإسلامي في ما يخص قضايا الدين. وفي الحقبة التي نعيشها ثمة نمطٌ للدولة الحديثة مشبع بالنزعة الحداثية وبالأبعاد العلمانية، فرض نفسه أو فرض قسرا، لما نتحدث عن الدولة الغربية والدولة المغربة، بات هو السائد؛ وبالمقابل ثمة فوران للدين يتخذ أشكالا عدة وتمظهرات شتى، بات قادرا على التأثير على الخيارات الكبرى، كما حصل في أوروبا مع حدثين بارزين، عند طرح موضوع تضمين التراث المسيحي اليهودي من عدمه ضمن مسودة الدستور الأوروبي، وكذلك مع التلكؤ في ضم تركيا إلى المجموعة الأوروبية؛ وهو كذلك قادر على التأثير الفاعل في مسارات حراكات الشعوب، كما حصل مع موجة الربيع العربي.
وفي ظل واقع معولم ما عاد قبول المعرفة الدينية مستمدا من سياق إيماني وحده، يفي بالغرض. وهو ما يضع تلك التحولات وغيرها أمام تساؤلات مصيرية في شأن حضور الدين خارج فضائه الإيماني المعهود، فهل التعليلات التي يعلل بها مقولاته هي بحق تعليلات كونية؟ وهل خطابه تجاه المغاير هو خطاب عقلاني وواقعي؟ تلك بعض القضايا التي أراد الكاتب معالجتها في هذا الكتاب.