محمد أبوالفضل
الرئيس المصري الذي يتدخل في كل التفاصيل اختصر دور الحكومة والوزراء والمؤولين في مختلف المستويات، الجميع ينتظر تدخله ليشرح ويفسر ويرد على الإشاعات والانتقادات، حتى في القضايا التي تبتعد كثيرا عن الشأن السياسي.
مهما كانت طبيعة المشاكل التي تواجهها مصر يظل الرئيس عبدالفتاح السيسي حاضرا قويا في تناولها ومحاولة معالجتها، فلا يتورّع في كل مناسبة تقريبا عن الحديث عن الأزمات التي تواجهها الدولة والتوضيح والتفسير على مستويات مختلفة أمام وسائل الإعلام، والتي في العادة يبتعد عنها الزعماء طالما لا تتوفر لديهم حلول.
أصبح الرئيس المصري مركز الجاذبية السياسية في بلاده، بكل ما ينطوي عليه ذلك من إيجابيات وسلبيات ومكاسب وخسائر، إذ يدرك أن غيابه قد يتحوّل إلى مشكلة أكبر في مصر، فلا توجد جهة أو وزير أو مسؤول قادر على التعامل مع الأزمات، وكل هؤلاء يتوارون خلف بيانات تبعدهم عن الارتدادات المباشرة للتعامل مع المواطنين، باستثناء السيسي الذي يتطرق للأزمات وفقا للتقديرات التي يراها ملائمة.
يفصح ويلمّح ويخفي أحيانا، وفي كل الحالات هو الرقم الوحيد في المعادلة المصرية، والذي يخاطب الرأي العام، ومع أهمية هذه المسألة في حياة الشعوب، إلا أن ظهوره المتكرر والتصدي المستمر يحسب عليه، تارة لأنه يتحدث بتلقائية ويستفيض في تناول بعض القضايا ما يتسبب في إحراج بعض الأجهزة الأمنية التي اقترحت عليه التجاهل.
وتارة أخرى بسبب المقارنات التي يعقدها البعض لخطاباته، والتي يكتشف من خلالها المتابع أن نسبة التفاؤل التي صاحبته وقت وصوله إلى السلطة في تراجع، ما يمثل مادة ثرية لدى وسائل إعلام تابعة لجماعة الإخوان تتغذى على ما يظهر أمامها من مفارقات وتناقضات وتعزف عليها لاستقطاب الرأي العام أو إبعاده عن الرئيس السيسي.
تحوّل الرئيس المصري إلى وزير إعلام أيضا، حيث يلقي التوجيهات والتعليمات ويحدد الإجراءات على الهواء مباشرة، فتقوم البيروقراطية المصرية بالتعامل معها باعتبارها فرمانات أو قرارات قبل أن تأخذ حقها من الدراسة والتدقيق، وهذه آفة الكثير من جيوب الدولة العميقة في مصر التي تريد التنصل من المسؤولية ووضعها على عاتق رئيس الدولة، حيث تعلم أنه الوحيد الذي يعرفه ويلجأ إليه المصريون.
توارى الكثيرون أو اختفوا وبات الرئيس السيسي بمفرده يفسر ويوضح ويشرح، ويطمئن ويقلق، ويحبط ويشيع التفاؤل، ولا أحد غيره يتحدث عن المشاكل تفصيليا، وهي مسؤولية كبيرة أعفت الكثير من الجهات التنفيذية من المسؤولية ورفعت عنها تحمل نتائج الأخطاء ووضعتهما على عاتق رئيس الدولة.
قد يكون سعي الرئيس وراء مخاطبة الرأي العام دوما مطلوبا لتوصيل رسائله بلا تحريف أو مغالطات، غير أن التمادي في ذلك عن قصد أو دونه جلب نتائج قاتمة لدور الرئيس المحوري في منظومة الدولة المصرية ووضع على كاهله كل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية للدرجة التي أصبح يضج منها ويطالب معاونيه بالنزول للناس، فهو في نظر المواطنين مسؤول عن توفير الحلول للأزمات المستعصية.
أراح الرئيس السيسي الجهات التنفيذية ومساعديه وأرهق نفسه كثيرا، فمطلوب منه تقديم إجابات شافية عن تساؤلات يطرحها المواطنون سرّا وعلنا، في السياسة والاقتصاد والأمن والمجتمع والسكان والدين والفن والرياضة، إذ اختفت الدوائر المسؤولة عن ذلك وأضحى الرئيس الوحيد الذي يحارب على كل الجبهات.
أتعب نفسه أولا وأراح الآخرين ثانيا، هذا هو العنوان الرئيسي لما يجري في مصر والملخص الذي يختصر الكثير من المسافات لفهم الحياة فيها، ليس بالضرورة أن يكون ذلك نابعا من قائد ملهم أو زعيم على استعداد لتحمل المسؤولية أو حتى حاكم عسكري اعتاد إلقاء الأوامر والتعليمات، فقد يكون أيضا ثقة مفرطة في النفس ودراية بحقيقة شعبه الذي يمنح قداسة لمنصب الرئيس ولا يعبأ بغيره.
أدى هذا التوجه إلى تحقيق مكاسب عديدة وسرعة الإنجاز في المشروعات التنموية والعملاقة، فعندما يشرف الرئيس أو يتدخل فيها الكل يستجيب، وتعلم الجهات المنفذة أن هناك أوامر رئاسية صدرت يصعب التنصل منها أو الالتفاف حولها، وتكتسب قوة مضاعفة في التغلب على عقبات البيروقراطية ولا تجد من يعرقلها أو يعطلها.
بقدر ما يثبت هذا المنهج شجاعة الرئيس السيسي وجرأته وتضحيته وتواضعه وعدم هروبه من تحمل المسؤولية كاملة، فإن البعض يأخذون عليه أنه يهدم بعض أركان النظام المؤسسي في الدولة ويلغي الإدارات التنفيذية ويمنح الوزراء صك براءة من عيوب يمكن أن تشهدها المشروعات المترامية التي يتم تنفيذها بطول البلاد وعرضها.
عندما يهبط جسر أو تزداد أسعار السلع والخدمات أو يهبط مستوى الفن والثقافة ويتراجع دور الإعلام أو يتردّى تصوّب أصابع الاتهام إلى الرئيس السيسي وحده، وهذه آفة أنه أصبح حلّال المشاكل في مصر، بإرادته أو بسبب ألاعيب الدولة العميقة التي تتعمد كثيرا أن تبدو لا حول ولا قوة لها في الشأن العام.
قادت هذه اللعبة إلى خلوّ مصر من بعض الكفاءات والشخصيات الكاريزمية التي تتصدر الفضاء العام قسرا جراء ضغوط البيروقراطية معتقدة أنها ترضي رأس الدولة أو إحباطا ويأسا وضعفا بما يفضي إلى تصويب الناس لأحلامهم وآمالهم نحوه.
من المؤكد أن الرئيس السيسي لا يرضيه أن تختزل الدولة في شخصه أو يصبح هو المركز الوحيد للحل والعقد حتى ولو أراد من حوله ذلك له، لأنه يعلم مغبة هذه النتيجة من عواقب، فمركز الضوء يجذب إليه الكثير من الانتباه، باعتباره العلامة التي يذهب إليها الناس عند الخطر لتلمّس معالم الطريق.
عندما يهبط جسر أو تزداد أسعار السلع أو يهبط مستوى الفن ويتراجع دور الإعلام تصوّب أصابع الاتهام إلى السيسي
تسببت جرأة الرئيس السيسي في التصدي لمعالجة الأزمات بالداخل والخارج في عدم قدرة غالبية الجهات على تقديم النصائح الأمينة قبل وقوع الكوارث، وقزّم حضوره الطاغي كل من حوله، كأن هناك من يتعمد جعله المقاتل الوحيد في الميدان، يوجه ويرشد ويقرر، لا ينقصه سوى التنفيذ، وهي مشكلة عميقة فعند لحظة معينة لن يستطيع أقوى رئيس في العالم أن يتحمّلها بمفرده.
لدى الرئيس السيسي يقين أن غيابه عن شرح الجروح القديمة وتضميدها سيفاقمها، وانخراطه في حل تفاصيلها يدخله دهاليز ودروبا وعرة، لذلك فاللجوء إلى إنشاء مؤسسات جديدة في السياسة والاقتصاد والإعلام وعدم الاعتماد على ما هو موجود بقدر ما أفاد في تجاوز الكثير من العراقيل أوجد أجواء من التربص بين الحديث والقديم، ربما تصل إلى حد الصراع الخفي، الأمر الذي يزيد الأزمات.
يبدو الرئيس السيسي مستعجلا في تحقيق الإنجازات وقطف الثمار الاقتصادية، إلا أن الظروف في الداخل والخارج لم تكن مواتية أمامه، حيث ضربتها تطورات أرخت بظلال سلبية على بعض حساباته لمستقبل الدولة المصرية، ما جعل دوره الملهم في الحكم يصطحب معه أزمات ثقيلة لن تتراجع إلا من خلال توسيع مجال المشاركة في تحمل المسؤولية ومنح الشخصيات والمؤسسات المعاونة فرصة لمساعدته وتخفيف الضغوط الواقعة عليه.
المصدر العرب اللندنية