كريتر نت – متابعات
لم يمنع الوضع المالي الصعب الذي تعيشه تونس الاتحاد العام التونسي للشغل من الاستمرار في الإضرابات للضغط على الحكومة من أجل إقرار زيادات مالية لفائدة أكثر من نصف مليون موظف في القطاع العمومي، في موقف يدعم الاتهامات الموجهة إلى المنظمة النقابية بأنها ذهبت بعيدا في تأزيم الوضع الاقتصادي وزيادة العبء المالي على الدولة التونسية.
ولا يكاد يمر أسبوع دون الإعلان عن إضراب جديد تلجأ بعده الحكومة إلى التفاوض وتقديم التنازلات أو يجد المواطنون أنفسهم يعانون من تبعات إضرابات عشوائية في قطاعات حيوية مثل النقل أو المحروقات.
ومن المفارقة أن الاتحاد يقول في تصريحاته إنه يدافع عن المواطنين ويريد من خلال الإضرابات تحسين الخدمات المقدمة لهم، وهو ما يتعارض تماما مع الواقع؛ حيث تزيد الإضرابات والاعتصامات من معاناة التونسيين، وتعيق حصولهم على الخدمات الضرورية خاصة أن بعض الإضرابات تأتي بشكل مفاجئ ودون إعلام مسبق مثل ما جرى أكثر من مرة في قطاع النقل.
ولا يهتم الاتحاد بالخسائر التي تلحق بالاقتصاد التونسي جراء الإضرابات المتتالية منذ 2011 والزيادات المالية للموظفين الحكوميين. وما يهمه هو إظهار نفسه على أنه “أكبر قوة في البلاد” قادرة على إخضاع الحكومات لشروطها المجحفة.
وليس هذا الكلام تعليقات سياسية من أطراف تونسية عُرفت بمعارضتها للاتحاد، وإنما جاء على لسان الخبير الاقتصادي في كلية لندن للدراسات الاقتصادية ستيفن هيرتوغ الذي قال في تحليل نشرته مجلة “فورين بوليسي” إن “الكثيرين لا يدركون أن الاتحاد ساهم في الأزمة المالية والاقتصادية ودافع عن مصالح موظفي القطاع العام ولم يقدّم الكثير لعدد كبير من التونسيين العاطلين عن العمل والموظفين العاملين في القطاع الخاص دون عقود رسمية أو ضمان اجتماعي”.
وأضاف هيرتوغ أن “سلوك الاتحاد عزز عدم المساواة الاقتصادية والإحباط الاجتماعي، وزاد من تفشي عدم الكفاءة الاقتصادية”.
ويرفض اتحاد الشغل المحاولات الحكومية لإصلاح المؤسسات والشركات العمومية المثقلة بالديون والتي تضم الآلاف من الموظفين. ويعزى هذا الرفض إلى أن الاتحاد لا يريد التخلي عن هذه الشركات التي تعود عليه بعائدات مالية كبيرة في ظل ارتفاع عدد المنخرطين، مثل شركة الخطوط التونسية.
في 2021 امتلكت الخطوط التونسية 26 طائرة لم تعمل منها سوى سبع طائرات. وتوظف الشركة 7600 شخص، أي أكثر من ألف شخص لكل طائرة عاملة. وقاوم الاتحاد العام التونسي للشغل جميع محاولات إصلاح هذه الشركة تماما مثلما يقاوم توحيد الأجور داخل القطاع الحكومي.
وتعاني تونس من أحد أعلى نسب الإنفاق على رواتب موظفي القطاع العام في العالم، حيث وصلت إلى 15.1 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي سنة 2022. وفي الآن نفسه تعطّل القيود المالية التعيينات الجديدة، مما يعني تقلّص فرص الشباب الباحثين عن عمل في الحصول على وظيفة حكومية.
ويقول مراقبون إن الحكومات المتتالية جعلت شغلها الشاغل إرضاء اتحاد الشغل عبر الاستجابة لشروطه المجحفة من خلال زيادات وامتيازات مالية للقطاع العمومي، وهو ما أعاق خطط الدولة التونسية لضخ الأموال في الاستثمار الحكومي وخلق مواطن عمل جديدة، وتحسين الخدمات في القطاعات الحيوية مثل الصحة والتعليم.
ويرى هؤلاء أن الإضرابات المتتالية في هذا الوضع الصعب لا شك أنها ستحوّل الغضب الشعبي نحو اتحاد الشغل بالرغم من الشعارات التي يرفعها ويوحي من خلالها بدفاعه عن محدودية القدرة الشرائية للتونسيين ورفضه رفع الدعم عن المواد الأساسية، لكنه بدلا من أن يراعي ظروفهم الصعبة يزيد الضغط عليهم بإضرابات عشوائية تكون في الغالب غير معلنة وتحتكم إلى مزاج النقابات.
واعتبر الخبير الأمني والمحلل السياسي التونسي خليفة الشيباني أنه “عندما تُدار الأوضاع الاقتصادية بخلفيات سياسية فلا يمكن تحقيق نتائج منتظرة. وكثرة الإضرابات التي دعا إليها اتحاد الشغل في أوضاع معينة ودون أسباب، ساهمت في احتداد الأزمة”.
وقال الشيباني في تصريح لـ”العرب” إنه “لا بدّ أن تكون المطالب عقلانية وتراعي الأوضاع التي تعيشها البلاد، ويمكن تأجيل بعض المطالب نظرا إلى صعوبة الظرف الاقتصادي”.
وتقف مطالبة الاتحاد كمعرقل رئيسي أمام سعي تونس لتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية وضرورة تنفيذ خطة تقشف تساعدها على تطويق الأزمة التي تعيشها، وهو ما أشار إليه الشيباني بقوله إنه “في الوقت الذي يطالب فيه صندوق النقد الدولي بمراجعة منظومة الدعم وكتلة الأجور، رأينا اتحاد الشغل يدعو إلى الزيادة في الرواتب، وهو ما يثقل كاهل الدولة في ظل الأزمة المالية والاقتصادية”.
ولا يقبل اتحاد الشغل بفكرة مراعاة الوضع المالي للبلاد في ظل تداعيات الحرب في أوكرانيا على المواد الغذائية، ومخلفات جائحة كورونا على الاقتصاد التونسي، وما يهمه هو الاستجابة لمطالب النقابات الجهوية والقطاعية التي تدفع دائما نحو التصعيد للحصول على زيادات جديدة.
وأضاف الشيباني “هناك إضرابات في عدة قطاعات دامت ثلاثة أيام وتبعتها تحرّكات عشوائية أثّرت على السير العادي للمؤسسات وعطّلت شؤون المواطنين بالتزامن مع ظرفية اقتصادية صعبة تبعا لتداعيات جائحة كورونا والأزمات العالمية”.
ولئن كان استعراض القوة الذي يمارسه اتحاد الشغل قد نجح مع حكومات سابقة اتسمت مواقفها بالضعف والتذبذب وتحكمت فيها الحسابات السياسية، فإنه اليوم يجد موقفا حازما من قِبل الرئيس قيس سعيد الذي يرفض الرضوخ لأي ضغط من أي جهة كانت، ويتمسك بالفصل بين الدور النقابي والأجندة السياسية ملوحا بمحاسبة أي جهة تعمل على تعطيل مصالح الناس.
وفي يناير الماضي شدد الرئيس التونسي في كلمة له خلال لقاء بعدد من قيادات الحرس الوطني على أن “من يتولون قطع الطرق اليوم ويهددون بقطع الطريق السيارة لا يمكن أن يبقوا خارج دائرة المساءلة”.