كريتر نت – متابعات
ليس من المتوقع في الأمد المنظور، وما بعد المنظور، أن تحكم روسيا امرأة. بلد القياصرة هذا، يمكن أن يحكمه مرتكبو جرائم قتل جماعية، مثل ألكسندر الأكبر وستالين وبوتين، ويصعب أن يطغى عليه وجه أنثوي في أيّ وقت من الأوقات. ولو حدث ذلك في القرن المقبل، فإن العالم سيكون غير العالم الذي نعرفه الآن.
ولا سبيل للافتراض بأن قيادة النساء تعني تحاشي الحروب بالضرورة، ولكن يمكن الافتراض، بكل قطع، أن الأعمال الوحشية لا تحدث.
ولم يشهد التاريخ الحديث، الذي أتاح للمرأة أن تتولى القيادة في ألمانيا وبريطانيا والهند والباكستان ونيوزيلندا وتركيا والأرجنتين وتشيلي وميانمار وغيرها من دول العالم، إلا حربا واحدة، هي حرب الفوكلاند. إلا أن قيادة المرأة في كل هذه البلدان لم تشهد أعمالا إجرامية ضد أقليات أو معارضين سياسيين أو ممارسة سياسات تمييز عنصري أو انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، دع عنك التمييز ضد المرأة.
ولكن هناك استثناء واحد يُثبت القاعدة، وهو غولدا مائير التي حكمت إسرائيل بين عامي 1969 و1974. وسبب الاستثناء هو أن إسرائيل كانت وما تزال كيانا تجريبيا قام على مزيج من أساطير وأوهام وجرائم، ويشعر أن وجوده مرتبط باستمرار الجريمة، لأجل إثبات وترسيخ ما فعلت. وذلك في مسعى لكي يتحول هذا الكيان إلى بلد مستقر. إلا أنه لم ينجح حتى الآن، لا في العلاقة مع جواره، ولا في العلاقة مع نفسه، ولا حتى في علاقته مع سلطة القانون، التي يدور النزاع حولها بين الكينست والقضاء، وذلك في دلالة على أن طابعه التجريبي لم ينته بعد.
الوجه الأنثوي للسياسة يمنح المجتمعات التي تقودها المرأة قدرا أوفر حظا من العدالة والمساواة
عدا هذا الاستثناء، فقد أثبتت قيادة المرأة، من الناحية المتعلقة بالقيم الإنسانية، أنها أكثر جدارة بكثير من قيادة الرجل، وأن الوجه الأنثوي للسياسة يُضفي عليها طابعا ليس إنسانيا فحسب، ولكنه يوفر ضمانات للأمن والسلام الدوليين أيضا، كما أنه يمنح المجتمعات التي تقودها المرأة قدرا أوفر حظا من العدالة والمساواة.
طرحت أنالينا بيربوك وزيرة الخارجية الألمانية مشروعا لـ”سياسة خارجية نسوية” يتضمن “مبادئ توجيهية” تهدف إلى “تعزيز حقوق وتمثيل النساء والفئات المهمشة وتوفير الموارد لها”. كما تهدف، بالمعنى الداخلي، إلى تشكيل أساليب العمل الداخلية للوزارة لأجل بناء ما وصفته بـ”رد فعل نسوي” للقضايا التي تهم العلاقات الخارجية، ولأجل هذه الغاية اقترحت استحداث منصب “سفيرة للسياسة الخارجية النسوية”.
وقالت بيربوك إن وزارتها ستعمل “بجد لإعطاء خدماتنا الخارجية وجها أكثر أنوثة وزيادة نسبة النساء في المناصب القيادية”.
فنصف الحكومة الألمانية التي يقودها المستشار أولاف شولتس من النساء أصلا، ويقل معدل أعمار وزرائها عن خمسين عاما، ما يشير إلى أنها حكومة شباب أيضا. بيربوك نفسها من مواليد ديسمبر 1980.
و”رد الفعل النسوي” يقصد أن يكون هناك منصب رسمي ينظر إلى الشؤون الخارجية من منظار يأخذ بعين الاعتبار تأثيراتها على النساء. وأن يتم “دمج وجهات نظر النساء والفئات المهمشة في عملنا العالمي من أجل السلام والأمن”. وبحسب المشروع فإن “السياسة الخارجية النسوية” ليست سياسة من أجل تعزيز حقوق المرأة ومساواتها، وإنما “لضمان المساواة والعدالة بين جميع أفراد المجتمع”.
ما حصل خلال السنوات التي أمضتها ميركل في المستشارية هو أنها بنت اقتصادا قويا، يستند إلى معايير وقيم لا تتوفر في غيرها من بلدان العالم المتقدمة
هذا المشروع، الذي يُنتظر أن تصادق عليه حكومة شولتس، هو الأول من نوعه في العالم. ويعكس رؤية ليست استثنائية بحد ذاتها لدور المرأة ومكانتها، فالأنثوية العالمية تيار واسع الثراء في أفكاره ورؤاه، فضلا عن صخبه وفوضاه أيضا، إلا أنه الأول الذي يصيغ منها “سياسة خارجية” يفترض أن تترك أثرا ملموسا على المقاربات التي تتبناها ألمانيا في علاقاتها مع دول العالم الأخرى.
هذا الأمر يعكس مدى نضج المجتمع الألماني نفسه. فجانب كبير من الفضل يعود إلى قيادة أنجيلا ميركل. ليس لأنها أول امرأة تقود ألمانيا، بل لأنها قادتها بنجاح، وجعلت منها قوة عظمى حقيقية. بل إنها “القوة العظمى” الوحيدة التي لا تُضفي على قوتها معيارا عسكريا.
وسوف ترى الفارق الهائل بين طبيعة هذه القوة وبين القوة “المسترجلة” التي تمارسها روسيا الآن، ليس لأنها موصوفة بأي شيء آخر ذي معنى وإنما لأنها قوة نووية تهدد بها العالم بأسره. إنها قوة تريد أن تغزو بلدا آخر، وتستولي على بعض أراضيه، وتريد للعالم أن يقبل بذلك فقط بدافع أنها تمتلك أسلحة نووية. وبكل بساطة، يقول ديميتري ميدفيديف نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي، في أحدث ما كتب “ما الحاجة إلى عالم، لا توجد فيه روسيا”. وهو يقصد أنه مستعد لتدمير العالم برمته، طالما أن روسيا لا تستطيع ضم أراضي دولة أخرى.
هؤلاء هم “الرجال” الذين تنتجهم “القوة العظمى” في روسيا. تلك هي طبيعتها. والاسترجال هو شخصيتها “الوطنية”. بينما تنتج ألمانيا نساءً مثل ميركل، وحكومة نصفها نساء، وتريد التخلص من كل شيء نووي، حتى ولو كان مفيدا. وتريد بيربوك أن تضفي طابعا “أنثويا” على عمل وزارتها، وعلى العالم بأسره لو استطاعت.
ما حصل خلال السنوات التي أمضتها ميركل في المستشارية هو أنها بنت اقتصادا قويا، يستند إلى معايير وقيم لا تتوفر في غيرها من بلدان العالم المتقدمة.
المرأة في ألمانيا تجاوزت بأشواط فكرة العيش في مجتمع لا يمارس التمييز، أو يسعى إلى العدالة والمساواة
العلاقات بين الشركات والعمال في ألمانيا، على سبيل المثال، تنتظم في أطر رسمية للشراكة والحوار والتضامن. وهناك مؤسسة أفكار وخبرات، من قبيل “مجلس حكماء الاقتصاد” يساهمون في صنع القرار الاقتصادي والاجتماعي. لا يفرضون شيئا على الحكومة. ولكن ما من حكومة يمكن أن تتجاهل ما يقوله حكماؤها. وهم “فوق حزبيون” حصرا.
والمرأة في ألمانيا، تجاوزت بأشواط فكرة العيش في مجتمع لا يمارس التمييز، أو يسعى إلى العدالة والمساواة. المجتمع الألماني ليس مثاليا، والمساواة ليست مطلقة بعد، ولا هي باتت من دون “قضايا” حقوق، إلا أن هذه القضايا تقع تحت سلطة قيم، دخلت في نطاق البديهيات العامة. وكلما نشأ ما يوحي بالخروج عنها، انتصرت القيم على الممارسات المخالفة لما تفرضه من معايير معقولة أو منطقية.
وهناك اليوم، طبيعة تعددية في هذا المجتمع سمحت بأن يعيش ويعمل فيه أناس تعود أصولهم إلى 105 بلدان في العالم. وعلى الرغم من أن استقبال نحو مليوني لاجئ منذ العام 2015 حتى الآن، تم لأسباب حسابية، تتعلق بالحاجة إلى أيد عاملة جديدة، وإلى جيل جديد ينهض بأعباء صناديق التقاعد، إلا أن الأمر لو كان “حسابيا” فقط، لانتهى إلى فشل ذريع. كان هناك نظام يقصد “استيعاب” الآخر وقبول التعايش معه، وليس “احتواءه” بمعنى فرض الإملاءات عليه.
الأمن والاستقرار والازدهار من ثمرة السنوات بين العام 2005 و2021 التي أمضتها ميركل في السلطة. إنها من صناعة امرأة. كانت ما تزال بعمر 51 عاما، عندما أصبحت مستشارة لألمانيا.
أما بيربوك، وهي زوجة وأم لبنتين، تريد بسياستها الخارجية الأنثوية أن تضفي شيئا من فرص الأمن والاستقرار والازدهار في بلادها على علاقاتها مع باقي دول العالم.