دخلت الإمارات العربية المتحدة في عام التسامح متطلعةً إلى العديد من الجوانب الهامة لهذه القيمة الإنسانية. وقد رأت أبو ظبي أن التماسك المحلي أمر بالغ الأهمية في بلد يشكّل فيه المغتربون نسبة كبيرة من السكان.
وبالطبع، يمكن قراءة الاندفاع الثقافي الإماراتي بشكل سلس في الكثير من الجوانب الحياتية الهامة، بالارتكاز على تعزيز مفهوم التسامح في مجالات شملت السياسة والاقتصاد والدين وقطاع الأعمال وغيرها.
وكما يحدث في كل عام، اختار رئيس دولة الإمارات، الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، موضوعًا لمدة 12 شهرًا، يجري بموجبه عرض سلسلة من المبادرات والسياسات على مدار العام، بغرض التأكيد على تغلغل هذه القيمة في المجتمع الإماراتي.
التسامح هو موضوع عام 2019، الذي جرى خلاله استقبال البابا فرانسيس، في أول زيارة تاريخية من نوعها إلى الخليج.
وحتى قبل زيارة البابا، حظيت مبادرات وسياسات التسامح بصدى واسع في البلاد منذ بداية العام، في إطار تطوير ثقافة حقيقية تؤدي إلى تقوية قيم التسامح الإنسانية، الأمر الذي يؤكد على مكانة البلاد كقوة عالمية في عصر ما بعد النفط.
من الجدير ذكره أن المبادرات الإماراتية لم تقتصر على الشأن الداخلي الإماراتي، فقد حققت البلاد بفضل المبادرات المتنوعة منذ عام 2010 نجاحًا إقليميًا باهرًا، جعلتها واحدًا من أكثر اللاعبين الإقليميين قوة في الشرق الأوسط، وأكسبتها نفوذًا ثابتًا في إفريقيا وآسيا وأبعد من ذلك.
وبالفعل، اتجهت أبو ظبي نحو تنويع الاقتصاد والتفكير الإستراتيجي البناء منذ فترة ليست قصيرة، ما عزز من مصالحها التجارية والأمنية والعسكرية كذلك.
وانطلاقًا من هذه الإنجازات، تتحول الإمارات إلى قوة عظمى ناعمة، ترتكز على الثقافة والفن والسياحة والعلوم.
وبالفعل، حققت البلاد استفادة كبيرة من النشاطات العالمية، مثل إكسبو دبي 2020، وكذلك من أدوات الدبلوماسية الثقافية.
ومن الملاحظ أن فكرة التسامح تقف في قلب هذا الجهد، إذ أصبحت الدبلوماسية الثقافية أحد الأبعاد الرئيسة المتنامية في السياسة الخارجية الإماراتية.
وقد تجسد ذلك من خلال شراكات معمقة مع الكثير من بلدان العالم، مثل فرنسا والهند، تميزت برموز ثقافية في التحالفات الثنائية. إن افتتاح متحف اللوفر في أبو ظبي عام 2017، والبناء المتواصل للمعبد الهندوسي الأول في الإمارات، ليسا سوى مثالين من بين الكثير من الأمثلة. الأمر لا يقتصر على الثقافة، فقد جعلت الإمارات التسامح ميزة جيوسياسية إقليمية بعد أن شكّلت هذه القيمة الهوية الوطنية الإماراتية. في 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، استضافت الإمارات أول مؤتمر عالمي للتسامح. في تلك المناسبة، جرى على التوقيع على “إعلان دبي”، الذي عرّف التسامح على أنه “الاحترام والتقدير لتنوّع ثقافات العالم، وأشكال التعبير، وأشكال الإنسانية كافة”.
من الواضح أن ترويج الإمارات لمفهوم التسامح كمبدأ توجيهي إرشادي للشؤون الدولية هو من الأعلى للأسفل، يخدم السياسات الدولية بكل تأكيد.
مأسسة قيمة التسامح
وبالعودة إلى الشأن الداخلي، حرصت الإمارات على إضفاء الطابع المؤسسي على التسامح، عبر تأسيس وزارة التسامح في عام 2016، وكذلك تشكيل اللجنة الوطنية العليا للتسامح عام 2018.
يرأس اللجنة المذكورة وزير الخارجية الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان، ويشارك فيها ممثلون عن المجتمع المدني.
تركز اللجنة على 7 ركائز جوهرية: التسامح في المجتمع، والتعليم، ومكان العمل، والثقافة، والتشريع، والإعلام.
وبالفعل، تمكنت اللجنة من جعل البلاد نموذجًا للتسامح، ما جعل الإمارات عاصمةً عالمية للثقافة والحوار بين الحضارات.
في الحقيقة، تمثل زيارة البابا فرانسيس إلى أبو ظبي ذروة عام التسامح 2019، إذ جسدت الحوار بين الأديان والقبول نحو الآخرين.
جاءت هذه الزيارة بناء على دعوات مشتركة من قبل الكنيسة الكاثوليكية في الإمارات، وولي العهد محمد بن زايد آل نهيان. تمثل الزيارة مؤتمرًا لحوار بين الأديان، بين شيخ الأزهر والبابا، وغيرهما من الزعماء الدينيين.
وبالطبع، تدلل هذه الدعوة على ارتكاز السياسة الخارجية الإماراتية على مفهوم التسامح في إدارة العلاقات مع الآخرين.
في يوليو/تموز 2018، أنشأت أبو ظبي مكتب الدبلوماسية العامة والثقافية، تحت إشراف وزارة الشؤون الخارجية والتعاون الدولي، ليتولي مهمة التدريب الدبلوماسي في كل سفارة وبعثة دبلوماسية. وبالفعل، تشهد الكثير من التحالفات الدولية الإماراتية أبعادًا ثقافية واضحة كما هو الحال مع فرنسا والهند.
لقد اعتادت القيادة الإماراتية على رعاية مشاريع ثقافية دولية على أرض الوطن، ما أدى إلى تصدير ثقافتها إلى الخارج؛ فعلى سبيل المثال، يرمز متحف اللوفر في أبو ظبي إلى دور البلاد في التقدم الثقافي والفني، وهو ما يساهم بدوره في تعزيز الوعي الذاتي الوطني الإماراتي، فضلًا عن نشر المعرفة إلى الآخرين.
إن التراث الثقافي الإماراتي غني بالتاريخ حول أبو ظبي ودبي والشارقة وعجمان ورأس الخيمة والفجيرة وأم القيوين. تعتبر البلاد قوة رائدة ليس بسب الإجماع الفدرالي فحسب، بل كذلك لنظرًا لقوتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية.
أبو ظبي هي مركز للطاقة والسياسة، ودبي مركز للتجارة، والشارقة عاصمة للثقافة.
لطالما كانت الشارقة رائدة من الناحية الثقافية في شبه الجزيرة العربية، إذ تستضيف المعرض الدولي للكتاب منذ عام 1982، وكذلك الفن المعاصر منذ 1993.
وفي الختام، يمكن القول إن مبادرة التسامح الإماراتية لعام 2019 ستؤدي إلى مزيد من التعزيز في السمعة العالمية للبلاد، وستسلط الضوء على هويتها وتراثها وثقافتها وتماسكها ومساهماتها، بعد أن أثبتت طابعها كدولة حديثة متسامحة ترحب بجميع الناس بصرف النظر عن الاختلافات الدينية والثقافية والعرقية.
وبالطبع، سيعود هذا على الإمارات بمصالح وطنية تعزز أمنها واقتصادها وسياستها وشراكاتها مع بقية بلدان العالم.