القاهرة – هشام النجار
مدفوعين بانحسار التنظيم وضعفه وتشتّت صفوفه، يحاول من تبقى من مقاتلي فرع داعش في مصر تجديد تكتيكاتهم عبر شن هجومات في المناطق الحضرية وتوسيع مساحة المناورات لتخفيف الضغط عن معاقلهم الرئيسية، لكنهم يجدون السلطات لهم بالمرصاد، فهي تدرك أن التنظيم يتجه نحو استغلال المناطق الحضرية محاولا استعادة نفوذ يحتضر.
وتملكت فرعَ داعش في مصر (ولاية سيناء) رغبة في الهروب من واقع هزيمته الميدانية داخل جغرافيا شبه جزيرة سيناء، وبدأ تدشين مرحلة جديدة قد تنقله إلى مدن ومحافظات مصرية قريبة أو بعيدة عن سيناء.
ويعيد هذا التوجه إحياء مشروع قديم لدى التنظيم الإرهابي، حيث روج إعلاميًا سابقا إلى اسم جديد وهو “ولاية مصر” بدلًا من “ولاية سيناء”، للإيحاء بأن نطاق نشاطه لن يقتصر على سيناء.
وظهرت إرادة داعش في تطبيق هذا السيناريو خلال العملية التي نفذتها إحدى خلاياه يوم الجمعة بمدينة الإسماعيلية شمال شرق القاهرة، والتي أودت بحياة ثلاثة من عناصر الشرطة المصرية، فيما أُصيب أربعة أشخاص بينهم ضابط، وأعلن داعش مسؤوليته عنها في اليوم التالي.
ولجأ التنظيم إلى الانتقال بعملياته إلى عمق بعض المدن المصرية، مثل الإسماعيلية الواقعة على محور قناة السويس بسبب معاناته الكبيرة في سيناء من التضييق الشديد وتداعيات هزائمه هناك، حيث قلت أعداد منتسبيه وفقد الكثير من محاضنه وملاذاته بعد زيادة تعاون قبائل سيناء مع الجيش.
وقضى الجيش المصري على الكثير من مصادر الدعم اللوجستي وإمدادات المقاتلين المدربين والسلاح التي كان يجري تهريبها من الحدود الشرقية مع غزة.
فلول التنظيم المهزوم في سيناء تحاول اغتنام أي فرصة لتوسيع مساحة المناورة وتخفيف الضغط عن معاقله الرئيسية
وفي هذا السياق يمكن فهم بيان الإدانة الذي أصدرته حركة حماس الفلسطينية الاثنين للعملية التي قام بها داعش أخيرا، باعتباره إبراء ذمة من أي عمليات يقوم بها التنظيم الإرهابي لاحقا.
توسيع المناورة
تحاول الخلايا الصغيرة المشكّلة من فلول التنظيم المهزوم في سيناء منذ أكثر من عام اغتنام أي فرصة لتوسيع مساحة المناورة وتخفيف الضغط عن معاقله الرئيسية في سيناء عبر خلق ملاذات جديدة لعناصر التنظيم داخل الكتل السكنية في المدن.
ولم تبدأ محاولات فرع داعش في سيناء للتمدد نحو الأطراف بعيدًا عن معاقله التقليدية التي واجه فيها نكسات مؤلمة بمثلث (رفح – العريش – الشيخ زويّد) بعملية الإسماعيلية الأخيرة إنما قبل، خلال اشتباكات جرت بمدينة القنطرة شرقا، والتي برهنت على أن خلاياه وصلت إلى تخوم الإسماعيلية.
وخطط داعش بهذا الانتقال للاختباء بين السكان والاندساس داخل الأحياء السكنية، وهي بيئة صعبة أمنيًا بالمقارنة مع صحراء سيناء الفارغة التي أتاحت للجيش ومعداته الثقيلة وطائراته حرية التحرك والقصف، وهو ما سهل استهداف تمركزات داعش ومخابئه السرية.
ودلت طبيعة العمليات التي نفذها داعش مصر في مراحل مختلفة على مدار العام الماضي وصولًا إلى العملية الأخيرة الجمعة الماضي على أنه يحاول جر قوات الأمن إلى معركة في قلب الكتل السكانية وداخل جغرافيا مختلفة عن تلك التي تلقى فيها هزائم مؤلمة في صحراء سيناء المكشوفة.
وترتبط عملية مدينة الإسماعيلية الإرهابية بتنصيب خليفة جديد لداعش وهو أبوالحسين الحسيني القرشي، حيث يحاول التنظيم من خلال نشاط فروعه تثبيت شرعية الخليفة الجديد نظرًا إلى الخلافات المحتدمة داخله حول من يتولى قيادته وطريقة الاختيار وبقاء الخليفة مجهول الهوية إلى حين وفاته.
ويهدف تنفيذ عمليات في الفروع المهمة عقب تسمية الخليفة الجديد إلى الحد من الانقسامات والصراعات الداخلية وتكريس سلطة القرشي كقائد قادر على بسط سيطرته باتجاه الأفرع ودعمها وتوجيهها لإعادة تفعيل نشاطها.
ويخدم هذا السيناريو رغبة داعش في مصر في الخروج من هزائمه وبدء مرحلة يحصل فيها على دعم القيادة المركزية للتنظيم في كل من سوريا والعراق من أجل مده بالمال والسلاح والمقاتلين.
ولن يتحقق استئناف التمويل إلا بدفع مقابل ذلك في صورة تنفيذ عمليات تخدم أهداف ومصالح التنظيم وتمنحه فرص الترويج لنفسه وإثبات أنه لم يٌهزم ولا يزال حاضرًا على الساحة الإقليمية وداخل الفروع المهمة.
الخليفة الغامض
اضطر تنظيم داعش المركزي (في العراق وسوريا) للاعتراف بمقتل خليفته السابق أبوالحسن الهاشمي القرشي (نور كريم مطني عساف الراوي) في الثلاثين من نوفمبر الماضي معلنًا عن اختيار بديل له وأطلق عليه اسم أبوالحسين الحسيني القرشي.
وأتبع التنظيم هذا الإعلان بإطلاق بيعات عديدة لخليفته الجديد مجهول الهوية في الكثير من الفروع في الشرق الأوسط وأفريقيا للتغطية على الارتباك والضعف الذي يعانيه التنظيم بمركزه، وكان من بين الأفرع التي بايعت الخليفة الجديد فرع داعش في سيناء.
وجاء الإعلان مؤخرًا عن تنصيب الخليفة الرابع لداعش غامضًا حتى بمعايير التنظيم نفسه؛ وكان الحال دائما هو أن هويات خلفاء داعش الجدد لم تكن واضحة عند توليهم المهام، وبحلول الوقت الذي قُتل فيه كل واحد منهم، توفرت معرفة أساسية بهويتهم.
وأثبتت بيعات الفروع والعمليات التي نُفذت بعدها أن الخليفة الجديد رغم كونه مجهول الهوية إلا أنه لا يفتقر إلى النفوذ بين مؤيدي داعش في الشرق الأوسط أو في الخارج.
وأظهرت صور مبايعات فرع ولاية سيناء المبدئية للخليفة الجديد ضعفًا شديدًا وتناقصًا ملحوظًا في أعداد مقاتليه.
لكن الحال اختلف بعد تنفيذ عملية كمين الإسماعيلية؛ حيث وضح أن أعداد فرع داعش سيناء الحقيقية لا تقتصر على من ظهروا في صورة المبايعة على حساب التنظيم على تليغرام.
انتشار القوات المصرية في سيناء، على خلاف ما كان بالسابق، غيّر الوضع ميدانيًا، ما أسهم بشكل ملحوظ في نجاح الحملة ضد داعش سيناء
ووضح أن التنظيم يتوزع على هيئة خلايا صغيرة العدد ومنفصلة عن بعضها بسبب الإجراءات الأمنية الصارمة، وبعضها يتمركز على تخوم المدن القريبة من سيناء، ومجهز لتنفيذ عمليات خاطفة داخلها والهرب بعدها إلى ظهيرها الصحراوي.
وهذا التكتيك يختلف كليًا عن تكتيكات داعش سيناء ما قبل العام 2018، حيث يعتمد حاليًا على التموضع في مساحات جغرافية جديدة على هيئة خلايا صغيرة، وتقوم بتنفيذ عمليات خاطفة، وهي الحيل التكتيكية التي تلجأ إليها التنظيمات المسلحة في فترات انحسارها وأفولها.
وقبل أشهر قليلة أعلن المتحدث السابق باسم داعش أبوعمر المهاجر عن إستراتيجية التنظيم للمرحلة المقبلة، مركزًا على مخطط إحياء نشاطه في سوريا والعراق وتحرير مقاتليه المسجونين من خلال استئناف خطة هدم الأسوار، علاوة على إحياء نشاط التنظيم في فروعه المهمة.
وتحدث المهاجر في كلمته التي عُدت بمثابة برنامج العمل لداعش في المركز والفروع عن حاجة فرع داعش في سيناء إلى التغلب على أوضاعه الصعبة في ظل الحملة التي أطلقها الجيش المصري بالتعاون مع القبائل السيناوية ضد ما تبقى من معاقله.
كما وضح من خلال الإستراتيجية المطروحة أن التنظيم يمتلك خطة متكاملة تشمل المركز والفروع بهدف مواجهة خطط الاستئصال والقضاء التام على خلاياه ومجموعاته في المركز بسوريا والعراق أو بالفروع المهمة وفي مقدمتها الفرع المصري.
ولم يمضِ وقت طويل على كلمة المهاجر حتى تزامن تنفيذ بنود إستراتيجيته المفترضة، في كل من المركز والفروع المهمة.
وفي الوقت الذي كانت قوات سوريا الديمقراطية تصد هجومًا لداعش مستهدفًا سجنًا في الرقة يضم المئات من عناصر التنظيم بينهم مئتان من قادته البارزين، كانت قوات الأمن المصرية تصد هجومًا لخلية داعشية صغيرة على كمين داخل مدينة الإسماعيلية وتلاحق منفذيه.
ويتبين من ربط الأحداث بالإقليم أن لدى داعش طموحا في تحرير الآلاف من مقاتليه ومئات من قادته البارزين المحتجزين في السجون السورية، بالتوازي مع الانتقال من ساحات هزائمه في الفروع المهمة، مثل الفرع المصري لتنفيذ هجمات داخل الكتل السكنية بالمدن القريبة من سيناء، علاوة على تنفيذ هجمات أهداف ومصالح اقتصادية وحيوية.
حيوية مؤقتة
تمثل مشاهد تنفيذ إستراتيجية المهاجر لحظة انبعاث أو حيوية مؤقتة لداعش في المركز والفروع للتشكيك في إعلان الدول المعنية بمكافحة التنظيم الانتصار عليه بشكل كامل ونهائي.
وتسمح عودة داعش إلى تنفيذ عمليات متزامنة في العراق وسوريا ومصر حتى لو كانت غير مكتملة ومُجهضة لعناصره وقادته الادعاء بأنه لم يُهزم بصورة شاملة، وأن المعادلة لا تزال سجالًا بينه وبين جيوش الدول وأجهزتها الأمنية.
وتدل العمليات الأخيرة أن تنظيم داعش لا يزال يحتفظ بوجوده في بؤرته الأساسية في الشرق الأوسط، وإن كان ذلك بشكل صغير نسبيًا، والأهم من ذلك أنه لا يزال يحتفظ بمكانة “الخليفة” لإلهام فروعه التي تعمل تحت ضغط أقل في أجزاء أخرى من العالم من شمال أفريقيا إلى أفغانستان.
ونجح فرع داعش في سيناء بعد العام 2014 في شن هجمات متعددة على أنابيب الغاز في سيناء، وإسقاط مروحية عسكرية مصرية، وإغراق سفينة بحرية، وإطلاق صاروخ على سفينة شحن في قناة السويس.
العمليات الأخيرة تدل أن تنظيم داعش لا يزال يحتفظ بوجوده في بؤرته الأساسية في الشرق الأوسط، وإن كان ذلك بشكل صغير نسبيًا
وقُتل 311 مصليًا في هجوم على مسجد الروضة بمدينة بئر العبد في شمال سيناء، والذي كان يرتاده صوفيون، وفُجرت طائرة ركاب روسية على متنها 224 شخصًا معظمهم من السياح.
واستطاع الجيش المصري القضاء على الجزء الأكبر من قوة فرع داعش في سيناء، وتعزز هذا الانتصار بعد انضمام القبائل السيناوية إلى الحرب معه، ما أدى إلى خسائر فادحة في صفوف التنظيم التكفيري المتمرد، ومن ضمنها مقتل زعيمه في مارس 2021.
وأسهمت الموافقة المتبادلة بين القاهرة وتل أبيب على تجاوز بعض بنود معاهدة السلام لعام 1979 في تضييق الخناق على عناصر ومسلحي داعش في سيناء، بعد أن كان الملحق الأمني للمعاهدة يحد من نشر القوات المصرية الكافية مشترطًا عددًا وحجمًا محدودًا لها.
وغير انتشار القوات المصرية في سيناء، على خلاف ما كان بالسابق، الوضع ميدانيًا، ما أسهم بشكل ملحوظ في نجاح الحملة ضد داعش سيناء.
ولم تكتفِ القاهرة بالنهج العسكري الأحادي الذي لم يحرز تقدمًا في السابق وانتهجت إستراتيجية أكثر شمولية لمكافحة التمرد الداعشي، معتمدة على ضخ مليارات من الجنيهات في مشاريع التنمية الاقتصادية بشبه الجزيرة التي عانى سكانها من الإهمال طوال العهود السابقة.