علي الصراف
أنجزت قطر مونديالا رائعا لكرة القدم. العرس انتهى. أسعد، لمدة شهر، ثلاثة أرباع الكرة الأرضية. إنما بكلفة 220 مليار دولار أو أكثر. فلا تسأل: ومَنْ لا يمكنه أن ينجز أعمالا “رائعة” بمبلغ كهذا؟
لقد كان بوسع قطر أن تشتري به عشرة بنوك بحجم بنك “باركليز” (ويفهم الشيخ حمد بن جاسم ما أقصد) فالقيمة السوقية لهذا البنك، من دون عمولات، تبلغ 24 مليار جنيه إسترليني، وهو يدر عائدات سنوية تبلغ 7.18 مليار جنيه إسترليني. اضرب في عشرة، فيكون لديك سبعون مليار دولار سنويا من تلك البنوك العشرة.
كما يمكنك أن تشري عشرة من أكبر شركات صناعة الأسلحة، من قبيل البريطانية “بي.أي.إي سيستمز”، التي تبلغ قيمتها السوقية 23 مليار جنيه إسترليني، وتدر أرباحا صافية سنوية تبلغ 2.5 مليار جنيه إسترليني. واضرب في عشرة، فيكون لديك 25 مليار جنيه إسترليني سنويا من دون عصابة “فيفا”، ومن دون انتهاكات، صحيحة أو مزعومة، لحقوق العمال، ومن دون حاجة إلى التورط في مسالك ملتوية لتلميع الصورة. كما يمكن أيضا لمبلغ بهذا الحجم أن يحقق ثورة تنموية في أربع أركان العالم العربي، تقتلع الفقر من جذوره، وتقتلع البطالة والحرمان وتقيم مونديالا للسعادة والرفاهية يدوم لعدة عقود من الزمن وليس لشهر واحد.
ولكن قد يُعطى المال لمَنْ لا عقل له، كما قد يُعطى الجوز لمَنْ لا أسنان له.
◄ الحملة الأوروبية ضد قطر مدفوعة بأسباب عنصرية وآخر ما يجب مواجهتها به هو أن تصب فوق نيرانها زيتا إضافيا، لا عن طريق ملتو لتلميع الصورة، ولا عن طريق التهديد بأمن الطاقة
والأعمال الرائعة، بأمدها وعمق تأثيرها وسعته. المسألةُ مسألة ثقافة بالأحرى. فإذا كانت لديك بلدان بشعوبها، بكبارها وصغارها، بلاعبي كرة القدم والسلة والمنضدة والتنس، تقف على حافة هاوية سحيقة، وتحتاج إلى إنقاذها بضعة مليارات من الاستثمارات، فإنك سوف تصنع مونديالا لا سبيل لتقدير مدى روعته وجماله، وذلك إذا وضعت فيها خارطة طريق لتنمية “جارية”، كصدقة جارية على الأقل، فما بالك إذا كانت بعائد.
ولئن كنا نستطيع أن نجني من الاستثمارات التنموية استثمارات إنسانية وثقافية وتعليمية وصحية، فإن استثماراتنا في مونديال قطر، انتهت بفضيحة، كادت تقول إن كل ما وضعناه فيها قد ضاع.
هذه تجربة، صحيح أنها ما كان يجب أن تحدث ولا بأيّ مبرر، ثم ولا تحت أيّ مزاج من أمزجة الهوى، ولكنها حدثت، وآن الأوان لكي نتعلم من دروسها شيئا.
أحد أولها، هو أن قطر تحتاج أن تلمّ سُفرة السُكرة، بهدوء وتعقل، فلا تسيء، فوق ضياع المال، إلى مكانتها في عالم ما يزال ينظر إليها كمصدر حيوي من مصادر الطاقة.
لا حاجة إلى التوتر في العلاقات مع أيّ أحد. قطر تستحق مكانة مرموقة في محيطها الإقليمي والدولي على حد سواء. ما وهبها الله به، ما يزال كبيرا، ويستحق أن يكون ركيزة للاستقرار، كما يستحق أن يُحترم وأن يتخذ الوجهة التنموية والإنسانية والأخلاقية والسياسية الصائبة.
الحملة الأوروبية ضد قطر مدفوعة بأسباب عنصرية وحاقدة. هذا أمر مفهوم. وآخر ما يجب مواجهتها به، هو أن تصب فوق نيرانها زيتا إضافيا، لا عن طريق ملتو لتلميع الصورة، ولا عن طريق التهديد بأمن الطاقة. لا هذا صحيح، ولا ذاك.
قطر، كما باقي دولنا العربية، يتعين أن تتوقف عن السعي لشراء الرضا من غرب عنصري. هذا الغرب لو وضعته في غسالة مع كل مساحيق التنظيف الممكنة، فإنه سوف يعود ليخرج عنصريا. وهم لن يرضوا عنك حتى تتبع ملّتهم. وملّتهم هي أن تنفق كما يُغرونك بأن تنفق، لا كما يملي عليك عقلك، عندما تسترده.
وإذ لا تنقص أوروبا المخاوف من سوء العاقبة التي نجمت عن الابتزاز الروسي لها بالغاز، فإن ابتزازا إضافيا، حتى ولو كان مجرد تلميح، هو خطيئة تنزع عن قطر مكانة الثقة كمصدر مأمون للطاقة. أن ترفع إصبعا في وجه مَنْ قطع السيفُ أوصاله، سوف ينسى السيف وينتقم من الإصبع.
وهي خطيئة من خطايا سوء التدبير، أسوأ من ضياع 220 مليار دولار. لأنها تهدد الباقي.
الانتقادات لقطر لن تستمر إلى الأبد. سوف يعود الهدوء ليطغى، حسب ما تقتضيه المصالح. ولكن ذلك يتطلب تعاملا عاقلا، مع الانتقادات ومع المصالح على حد سواء.
◄ لقد كان بوسع قطر أن تشتري به عشرة بنوك بحجم بنك “باركليز” فالقيمة السوقية لهذا البنك، من دون عمولات، تبلغ 24 مليار جنيه إسترليني، وهو يدر عائدات سنوية تبلغ 7.18 مليار جنيه إسترليني
جانب من الانتقادات صنعته قطر بنفسها لنفسها. وهذا من بين أول ما يحسن التخلي عنه. بمعنى أن تكف عن السعي لتلميع الصورة بما يؤدي، بعد انكشافه، إلى تشويهها.
ثمة وسائل شرعية للتلميع، إذا كانت ضرورية من الأساس، يمكن الأخذ بها. طريقها طويل عادة، ولكنه أكثر ثباتا ونفعا. تقديم خدمات الإغاثة، واحد من تلك الوسائل. ولكن حتى هذه، يجب ألا تظهر كرد فعل على الانتقادات. نزعة السخرية سوف تنال منها، قبل كل شيء آخر.
ثاني أهم الدروس، هو أن تلتفت قطر إلى بيئتها. ما حدث في المونديال، كان عرسا عربيا. أحاط قطر بالكثير من الاحترام والتقدير من جمهور عربي شاسع. هذه هي الكأس. القلوب التي توجهت لمتابعة مباريات المنتخبات العربية، جمعتها قطر، وأحاطتها بحسن الضيافة والمحبة والدعم. كانت قطر محيطا عربيا. هو مكانها الذي لا سبيل إلى تعويضه، ولا بديل له. أعلام فلسطين كانت إعلانا لانتماء جماعي جمع الأفئدة، وكانت فلسطين هي “المنتخب الظل” لكل المنتخبات. هذا موقف كريم. ولا يُنسى.
والمعنى منه، هو أن هذا هو المكان الذي يمكن أن تقام عليه مونديالات التنمية. فترفع قطر كأس الإنجاز العظيم. لا كأسا يحملها ميسي إلى بلاده. بل كأسا يحملها القطريون إلى القلوب التي اجتمعت لهم ومن حولهم.
الصورة إنما تُبنى هنا. لا هناك.
كل ما يوجد لقطر في أوروبا هو السوق. والأوروبيون إنما يتعاملون معنا بأخلاق السوق. يبلغ الأمر، في بعض الأحيان، مستويات رديئة، ولكنه هو الواقع الذي لم يحملوا لنا غيره، منذ الحروب الصليبية إلى يوم الناس هذا. وهم يجرؤون على كل شيء. وإذا أكرمتهم، تمرّدوا.
في عالمنا العربي، إن أنت أكرمت الكريم ملكته. المسألة مسألة ثقافة.