هشام النجار
كان عيد الأضحى فرصة سانحة للأزهر حيث استغلها مركزه العالمي للفتوى الإلكترونية في نسف أطروحة سعدالدين الهلالي عن الحجاب، حيث نشر فتوى تحظر على النساء الخروج دون حجاب خلال العيد وتفرض ضوابط مشددة على الاختلاط بين الجنسين، مما يجعله متماهيا مع جماعات الإسلام السياسي المتشددة ويجدد الحديث عن ضرورة الاتفاق المصري على طرح فقهي يناسب تطورات العصر ويحد من الجرائم المرتكبة في حق النساء السافرات.
وأستغل الأزهر فرصة الاحتفال بعيد الأضحى في محاولة لكسب جولة في معركة الحجاب التي خاضها مؤخرًا ضد أحد أساتذته، حيث نشر مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية فتوى تحت عنوان “محظورات العيد”، ضمّنها حرمة خروج المرأة متزينة وغير ملتزمة بالحجاب.
واعتبر ناشطون الفتوى التي تضمنت أيضًا تحريم خروج الشباب والفتيات إلى المتنزهات غير ملتزمين بضوابط الإسلام وعدم جواز صلاة النساء بجوار الرجال، أن المؤسسة الدينية الرسمية في مصر تحرض على النساء وتحاول فرض سيطرتها على المجتمع.
ووجد البعض أن الكثير من الفتاوى الصادرة عن مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية تعكس هاجسًا يشغل المؤسسة الدينية، وتقلقها فرضية فقدان سلطتها الدينية على المجتمع، وهو ما يهدد مدنية الدولة ويكرس دولة دينية موازية.
الهلالي أثبت حق النساء في عدم ارتداء الحجاب وارتداء ما يروق لهن من ملابس في حدود مقتضيات الحشمة وأعراف المجتمعات
وشهدت الأيام الماضية تحولين لافتين في قضية الحجاب التي تحظى باهتمام كبير في مصر منذ سبعينات القرن الماضي.
وجرى على خلفية قضية مقتل طالبة كلية آداب المنصورة شمال القاهرة نيرة أشرف التركيز على لباسها وأخلاقها، وعقبت الحادث الذي هز المجتمع المصري تعليقات من بعض دعاة الأزهر قوبلت باستهجان واسع وعُدت تنمرًا وتهديدًا بالقتل والاغتصاب لغير المحجبات.
وتزامن ذلك مع ردود الأفعال الحادة من قبل الأزهر على ما طرحه سعدالدين الهلالي أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر مؤخرًا في إحدى الفضائيات بخصوص قضية الحجاب.
وأثبت الهلالي من خلال طرح أثار جدلًا واسعًا حق النساء في عدم ارتداء الحجاب وارتداء ما يروق لهن من ملابس في حدود مقتضيات الحشمة وأعراف المجتمعات.
وعكست فتوى مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية الأخيرة بشأن محظورات العيد حرصه على ألا يُستغل العيد نظرًا لطبيعة أجوائه المنفتحة كساحة تُختبر فيها أفكار سعدالدين الهلالي المتطورة، بجانب سخط قطاع كبير من النساء على طريقة تعاطي بعض أنصار الحجاب -ومن ضمنهم علماء أزهريون- مع قضية مقتل نيّرة أشرف.
وسيطر على القائمين على مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية هاجس مؤداه فرضية تأثر شريحة من النساء بطرح سعدالدين الهلالي المنفتح الذي اتسم بالعقلانية وقوة الحجة، مثبتًا أن ارتداء الحجاب أو عدم ارتدائه حرية شخصية وأن للمسلمات الحق في ارتدائه أو التحرر منه متى أردن ذلك.
وتحسب المركز في مقابل ذلك من تداعيات إبداء ناشطات وحقوقيات في مصر استياءهن من سوء أخلاق بعض أنصار الحجاب وافتقارهم لأبسط قواعد المنطق والعدالة إلى درجة تدشين حملة تعاطف واسعة مع الشاب الذي قتل طالبة آداب المنصورة لمجرد أنها غير محجبة.
ويخشى الأزهر حدوث تحول كبير بشأن القناعات التقليدية الراسخة في موضوع الحجاب على ضوء اجتهادات بعض العلماء المنفتحين المتسمين بالجرأة وفي مقدمتهم سعدالدين الهلالي، ما يقلص رقعة انتشار الحجاب إيذانًا بمرحلة جديدة.
وتلاشى خلال مراحل سابقة الإسدال الإيراني وتراجع النقاب الأفغاني وبدأت الفتيات يتحررن من الشكل التقليدي لغطاء الرأس الذي عممه تيار الإسلام السياسي منذ السبعينات.
الحاجة ملحة إلى طرح فقهي منفتح يناسب العصر ولا يجعل الزي وغطاء الشعر مقياسًا للأخلاق والعفة والفضيلة
ولا ينفصل الجدل الجاري الآن بشأن الحجاب عن سياقات سابقة تعثر خلالها المشروع رغم تضافر الجهود والعوامل لإنجاحه من تمويل مالي ورعاية جهات خارجية.
وبعد ارتداء فنانات له في الثمانينات من القرن الماضي تحت تأثير شيوخ معروفين كالشيخ محمد متولي الشعراوي أقدمت غالبيتهن على خلعه والتحرر منه، ما مثّل آنذاك هزيمة للمشروع الذي جرى تمويله لخدمة تيّار سياسي بعينه.
وكان للسياسة الدور المهم في صعود نجم الحجاب حيث وظف كأداة سياسية لاستعراض القوة وإثبات الغلبة العددية بجهود نشطاء جماعة الإخوان في الجامعة لفرض صبغة دينية على المجتمع منذ بداية السبعينات.
وهو النجاح الذي عجزت جماعة الإخوان عن إحرازه في حقبة الستينات عندما رفضت السلطة السياسية بقيادة جمال عبدالناصر دعوة مرشد الإخوان إلى فرض تحجيب النساء والفتيات.
ولعبت السياسة دورًا مهمًا في الاتجاه المضاد مع بداية أفول نجم الحجاب وتلاشي هالة القداسة التي صاحبت دخول نائبات الجماعة إلى البرلمان، وذلك منذ عزل الإخوان عن السلطة في مصر عام 2013 ورفض مشروع الإسلام السياسي في الحكم وكذلك الصدمة التي سببتها ممارسات تنظيم داعش.
وأسهم ظهور علماء دين، منتمين في الأساس إلى مؤسسة الأزهر ويتقلدون مناصب أكاديمية رفيعة ويحظون بحضور طاغ في وسائل الإعلام، في استعادة الآراء الأكثر انفتاحًا وعقلانية والتي لا تفتقر في الوقت ذاته إلى رؤى فقهية منطقية متماسكة، كان قد جرى طرحها قبل عقود من خلال رموز أزهرية مثل الشيخ محمد عبده والشيخ عبدالمتعال الصعيدي.
وتقلل إعادة إنتاج الرؤى الفقهية الأكثر انفتاحًا وعقلانية من تأثير مدرسة التشدّد في مسألة الحجاب التي شهدت ذروة نشاطها مع الحضور الطاغي لدعاة وخطباء اشتهروا بخطاب التهديد والوعيد الديني ضد غير المحجبات مثل الشيخ عبدالحميد كشك، واستمرت حتى اليوم مع تنويع في الوسائل بين العنف والتهديد تارة واللين والإغراءات تارة أخرى.
واستشعر الأزهر الخطر مؤخرًا على سلطته الدينية التي يمارسها على قطاع واسع من النساء اللاتي تعتمد ثقافتهن على التلقي السماعي من الشيوخ وليس من القراءة، مع ظهور علماء دين يستخدمون نفس الوسيلة في إزالة آثار رعب العقود الماضية.
ويؤدي الترويج للرؤى الأكثر منطقية وانفتاحا في مسألة الحجاب إلى خروج المرأة تدريجيا من أسر آراء فقهية قديمة لم ترقَ إلى مستوى الفرض الديني ولم تحسم وجوب ارتداء الحجاب بمختلف أشكاله، وكانت قد فرضت نفسها كواقع لا يقبل الشك فيه منذ سبعينات القرن الماضي في ظل تغافل الدولة وتواطؤ بعض مؤسساتها.
وما يضاعف قلق الأزهر هو أن من يروج هذه الرؤى المخالفة لما يتمسك به هو عالم أزهري يمتلك أدواته الفقهية وصاحب رؤية خاصة في التعاطي مع الآراء الفقهية المختلفة التي تجد قبولًا لدى قطاع من الجمهور، وليس مجرد ناشط أو مثقف ليبرالي كما كان معتادًا خلال السنوات الماضية.
وفي حالة سعدالدين الهلالي يصعب على دعاة الأزهر التعامل مع ما جرى طرحه في الإعلام من باب الرفض المبدئي بزعم أن من روّج تلك الآراء غير متخصّص في العلوم الشرعية والفقه أو أنه مجرد ليبرالي مغرض ومشكّك في ثوابت الدين.
وطرح سعدالدين الهلالي الذي صنع لنفسه قاعدة جماهيرية مؤخرًا آراء فقهاء محدثين مثل محمد عبده وعبدالمتعال الصعيدي، داعيا المرأة إلى الأخذ بما تجده مناسبا لأوضاعها وأحوالها دون الشعور بأي حرج ديني، مشددا على أن وصم غير المحجبة بأنها عاصية يفتح الباب أمام العنف ضدّ المرأة ويضاعف جرائم التحرش والقتل.
وتستند هذه المدرسة الفقهية إلى أن لفظ الحجاب في القرآن ليس مقصودا به تغطية الشعر بل استخدم للدلالة على معاني أخرى مثل الحاجز أو الساتر، وأن آية إدناء الجلابيب وردت للتفريق بين الإماء والحرائر كي لا يخلط الناس بين زوجات المؤمنين وجواريهم المسموح لهن بالتبرّج، ما يعني أن الأمر يعالج شأنا اجتماعيا شديد الخصوصية انتهى بإلغاء الرق والعبودية.
الأزهر بطريقة تعاطي دعاته مع مسألة الحجاب يقع في مأزق التماهي مع جماعات الإسلام السياسي والمؤدلجين المتشددين
ويثبت هؤلاء أن الحديث النبوي الوحيد الذي تناول مسألة حجاب المرأة ضعيف السند، فضلا عن أن الأمر بضرب الخمر على الجيوب مقصود به ستر النحر أو الصدر المفتوح، ما يؤكد على أن قضية الحجاب اجتماعية وليست دينية وللمرأة حرية الاختيار وفق ما يتناسب مع قناعاتها وظروفها الأسرية.
وربط سعدالدين الهلالي ومدرسته بين انتشار الحجاب وصحوة جماعة الإخوان وتغلغلها في الجامعة والمجتمع منذ السبعينات، في إشارة إلى أن المجتمع المصري لم يشهد هذا التشدد في مسألة الزي منذ ثورة 1919، مستدلًا بصور العديد من شيوخ الأزهر مع زوجاتهم وبناتهم دون حجاب أو غطاء للرأس.
ويعاني موقف الأزهر الرسمي من الضعف أمام هذا الطرح الذي لا يقابله بتفنيد للآراء ومناقشتها بصورة علمية معمقة، إنما بإطلاق الاتهامات في حق سعدالدين الهلالي بهدف التقليل من شأنه، وبفتاوى جاهزة دون تأصيل فقهي عصري يناسب تطلعات الجيل الحالي من النساء، الطامح إلى التحرر من الأغلال والتقدم إلى الأمام.
ويقع الأزهر، بطريقة تعاطي دعاته وبعض هيئاته مع مسألة الحجاب، في مأزق التماهي مع جماعات الإسلام السياسي والمؤدلجين المتشددين الذين يصرون على التعامل مع المرأة كمواطن من الدرجة الثانية، ويستخدمونها كورقة لتكريس السلطة الدينية التي يمثل الاستعباد والفصل الجنسي وحرمان المرأة من حقوقها في التعليم والعمل والخروج والتنزه بحرية أحد مظاهرها.
وتؤكد الجرائم الأخيرة التي راحت ضحيتها نساء غير محجبات أن المطلوب ليس الطرح الديني المتشدد الذي أنتج ردود أفعال غير سوية من قبيل التركيز على جسد الضحية وشرفها وعائلتها والتعاطف مع الجاني.
وباتت الحاجة ملحة إلى طرح فقهي منفتح يناسب العصر ويروّج قيم الحرية والتسامح والمساواة ولا يجعل الزي وغطاء الشعر مقياسًا للأخلاق والعفة والفضيلة، ويستعيد وجه مصر الحضاري قبل تغلغل الإسلام السياسي والفقه الأصولي المتشدد في جسد المجتمع.
المصدر : العرب اللندنية