صالح البيضاني
الكتابة في السياسة وفي الأدب في نفس الوقت ليست بالأمر السهل، إذ تتطلب دراية ووعيا كبيرين للفصل بين لغتي العالمين، بين لغة الوضوح الصارمة ولغة التأويل المفتوحة، وهو ما نجح فيه الكاتب اليمني خالد اليماني. “العرب” كان لها معه هذا الحوار حول أدبه ورؤاه.
تحت عنوان “كتاب الشتات اليمني” صدرت للكاتب والدبلوماسي اليمني خالد اليماني مجموعة قصصية باللغتين العربية والإنجليزية، عن دار ميريت في القاهرة، احتوت على خمس قصص قصيرة يتناول فيها الكاتب واقع حرب اليمن الممتدة وما يتصل بها من معاناة إنسانية تشكل الهجرة واللجوء الإجباري بعض صورها القاتمة.
وفي كتابه الجديد عن الشتات اليمني يبتعد اليماني عن السياسة كإطار للتعبير لكنه يظل أسيرا لمحتوى نصوصه التي تدور في فلك الواقع اليمني المأساوي الذي خلفته الحرب.
وعن تجربته تلك يقول الكاتب ووزير الخارجية اليمني الأسبق خالد اليماني لـ”العرب” إن “مجموعتي القصصية ‘كتاب الشتات اليمني’ تتناول من خلال مقاربة أدبية، قصة مسكوتا عنها، وهي معاناة طالبي اللجوء اليمنيين في مختلف دول العالم. وأنا أجد نفسي كلما ابتعدت عن السياسة أعود إليها بمختلف الأشكال والمقاربات، فحينما كتبت النص الشعري كانت ملحمة الشهيد ‘بكائية بدر ما انطفأ’ على سبيل المثال، بكائية من أجل مدينتي الحبيبة عدن، التي دمرتها الحرب، وتركت فيها جروحا غائرة، لا أعتقد أنها ستبرأ منها ولو بعد حين”.
بين الأدب والسياسة
يضيف “ها أنت ترى كيف يعبث الإرهاب بمصائر المدينة وسكانها في كل يوم. وكذلك الحال في هذه المجموعة القصصية، أحاول تفكيك شفرة الحرب، وأثر صيرورتها الداخلية على الإنسان، المطارد في مسكنه ولقمة عيشه، والأهم من هذا وذاك المطارد في أمنه ليجد نفسه مدفوعا بالخوف يهيم في بلاد الله بحثا عن ملاذات آمنة، قد يجدها وقد يموت في مسعاه. لهذا فأنا في هذه المجموعة القصصية أحاول إنصاف الضحية. ومن هنا فإن السياسة عندي هي حال من التحول والاستنساخ، فالسياسي حينما يبتعد عن الأدب يبتعد عن الإنسانية، ويتحول إلى مسخ”.
وعن محاولته ربما لترك مساحة كافية للابتعاد عن ضجيج السياسة والاقتراب أكثر من دفء الأدب والكتابة الإبداعية، وهل يرى أن الكتابة قد تكون ملاذا في مثل هذه الظروف، يقول اليماني “حاولت تعلم اقتصاد الوقت وتجزئته، حتى في قراءاتي، تجدني خلال فترة الأسابيع القليلة الماضية، مثلا، قرأت ‘راهب المخا’ للكاتب ديف إيغرز، وهي قصة نجاح مختار الخنشلي، أحد أبناء المغتربين اليمنيين في الولايات المتحدة، ولكن الكتاب الذي سبقه كان ‘خطر’ للكاتب والمحقق الصحافي الأشهر في العالم بوب وودورد، حول الأيام الأخيرة للرئيس الأميركي السابق ترامب في البيت الأبيض، وهذه الأيام أعود إلى الأدب بعد أن شرفني الكاتب العماني الكبير سيف الرحبي بنسخة إلكترونية من كتابه الأخير ‘في النور المنبعث من نبوءة الغراب’، وهي كما ترى رحلة لا تنقطع بين النص السياسي والأدبي وما بينهما”.
وفي سياق حديثه عن تجربته الإبداعية كقارئ وكاتب، وما بينهما من اهتمامات سياسية، يشير اليماني إلى أن الكتابة الأدبية تمثل بالنسبة إليه “حالة هجس تبتعد وتقترب”، ويضيف “قد أحسن أحيانا الإمساك باللحظة وقد أفشل فتكون كقبض ريح تغادرني فيها ملكة الكتابة، على عكس الكتابة السياسية، فأنا كما تعرف لدي عمود أسبوعي أتناول فيه السياسة الدولية، كما أتناول في لقاءاتي وظهوري الإعلامي آرائي المعروفة من مشروع استعادة الدولة اليمنية باعتباري جنديا من جنود تحالف دعم الشرعية حتى بعد أن قدمت استقالتي من الحكومة إبان حكم الرئيس عبدربه منصور هادي”.
ويعتبر اليماني أن النص الأدبي إشكالي بالنظر إلى عدم تفرغه لهذا السياق الثقافي، ويتابع “أولوياتي مشتتة بين موضوعات كثيرة، فساعات اليوم تتوزع بين متابعة هم الوطن، وهذا شأن يجمعنا نحن أهل النكبة اليمنية جميعا، ومتابعة نشاطاتي في المجلس الأطلسي، وكتابة العمود الأسبوعي، والاهتمام بطلاب الجامعات هنا ممن يقدمون دراساتهم العليا في شؤون اليمن والجزيرة العربية، وقد تدرب لدي العديد منهم، وبين كل هذا قد تتوفر لدي لحظة لاقتناص فكرة تحوم حولي ككرة ضوء فإن أمسكت بتلك اللحظة تمكنت من كتابة شيء مفيد”.
ويتابع “مثلا منذ أكثر من عام أفكر في نص ملحمي مأربي، أجريت الكثير من البحث والتقصي وتحاورت مع زملاء من مأرب، ولكنني لم أتمكن من إنجاز إلا هيكل مشوش يحتاج إلى الكثير من الوقت والجهد، والإلهام الذي لا يأتي إلا نادرا. كنت ومازلت أعتقد أن بإمكاني تصوير الملحمة المأربية، ولكن يتضح أن الإبحار في الإثنوغرافيا المأربية ليس سهلا”.
حنين للبدايات
في محاولة لتسليط الضوء على تأثير البدايات والضوء القادم من دهاليز التجارب الأولى في الكتابة الإبداعية والصحافية، تسأل “العرب” خالد اليماني عن شعوره بالحنين ربما، فيجيب “منذ أن تركت الوظيفة العامة، عدت إلى عالمي الذي أحب، فالكتابة الأدبية والشعر والرسم والخط، وهي ليست عودة الغريب، فأنا ابن الصحافة العدنية، فقد عملت في صباي في صحيفتي ’14 أكتوبر’ و’الثوري’، ودرست الصحافة في كوبا، واستمريت في مزاولة مهنة الصحافة في جوانب الكتابة والإخراج الفني، في صنعاء بعد الوحدة حتى فجر يوم الرابع مايو 1994 حينما أجهز الرئيس الشهيد علي عبدالله صالح على مشروع الوحدة وأقصى شركاءه الجنوبيين في الحزب الاشتراكي، وهي حالة الإجهاز التي مازلنا ندفع ثمنها حتى اليوم”.
وعن أجواء مجموعته الأخيرة التي تصدرها اقتباس لرائد السرد اليمني محمد عبدالولي، وإلى أي مدى أثرت الهجرة والحنين للوطن في تجربته الإبداعية، يقول الكاتب “العظيم محمد عبدالولي أحد أبرز رموز أدب الشتات في العالم العربي، ولا يمكن لي أو لغيري محاولة الكتابة عن الشتات اليمني دون العودة إليه، فهو النبع الذي نغترف منه لنتشبع بأبعاد آلام التيه بعيدا عن الأوطان”.
وبعيدا من التجربة الذاتية، قريبا من واقع المشهد الثقافي العام، تسأل “العرب” اليماني عن رؤيته لواقع الثقافة اليمنية في ظل الحرب والصراع السياسي من زاويتين كونه وزير خارجية سابقا وأديبا في ذات الوقت، فيجيب “المشهد الثقافي اليمني ثري، ويزداد ثراء في زمن الحرب مع زيادة الآلام والمعاناة الإنسانية، وأجمل ما تركته الأمم من إرثها الثقافي كان في أزمنة الحروب والأزمات، ولكن واقع المثقف اليمني البائس يحتاج إلى بعض الرعاية من القائمين على الثقافة، في زمن كثر فيه المدعون وتجار الكلمة و’المفسبكين’. فاليمن بحاجة إلى توثيق أدبي لسنوات الحرب، لملحمة الإنسان اليمني من أجل الانعتاق”.
يوميات دبلوماسي يمني
قبل سنوات أصدر وزير الخارجية اليمني الأسبق كتابا تضمن سرد بعض جوانب عمله كدبلوماسي في نيويورك، وحول إمكانية صدور كتاب جديد لليماني يسرد فيه يومياته كوزير خارجية يمني في واحدة من أصعب مراحل التاريخ اليمني الحديث، يقول “‘يوميات دبلوماسي في نيويورك’ هو كتاب أدبي جمع بين النص السياسي والشعر والأدب، وهو مقاربة شخصية نوستالجية لمفهوم اليوميات، وفي نفس الفترة قمت بكتابة العديد من الأعمال السياسية مثل قراءة موسعة كتبتها من زاوية الدبلوماسية اليمنية للمبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية أسميتها ‘القصة من الداخل’”.
ويضيف “خلال السنوات التي أعقبت استقالتي من الحكومة اشتغلت على مشروعين، الأول يتصل بالفترة التاريخية الحاسمة في تاريخ اليمن والتي توليت فيها مهام عملي كمندوب لليمن لدى الأمم المتحدة، أما الثاني فيتصل بما أسميته ‘عام تحت النار’، وهي الفترة التي توليت فيها مهام وزير الخارجية. وبإمكاني إتمام المشروعين إلا أنني أنتظر الوقت الملائم للقيام بذلك”.
وحول تجربته في الكتابة بالإنجليزية، وهل يعتقد أنه قادر على التعبير عما يجول في نفسه بلغة غير لغته الأم العربية، يضيف “أنا أشتغل باللغة الإنجليزية، وكافة كتاباتي وإسهاماتي في المجلس الأطلسي، وهو مؤسسة بحثية مقرها في العاصمة الأميركية، ويهتم بالشؤون الدولية، وأنا أعمل فيه كبير الباحثين غير المقيمين، هي باللغة الإنجليزية، كما أن لي كتابات باللغة الإسبانية التي أجيدها بحكم دراستي للصحافة في كوبا”.
ويتابع “لكن إذا كان سؤالك عن الكتابة الأدبية باللغة الإنجليزية، فهذا شأن آخر، وبتقديري لا يستطيع الكاتب أن يبدع بلغات متعددة لأن الأصل في شفرة التكوين الوراثية، في الخزين الهائل من التفاعل بلغة نسميها اللغة الأم. وفي كتابي الأخير قررت أن أجتهد لنشر الأعمال التي أشتغل عليها باللغة العربية مع ترجمة لها إلى الانجليزية حتى تصل إلى متناول جمهور أوسع في اليمن والعالم العربي والعالم الغربي وتحديدا في الولايات المتحدة”.
نقلاً عن العرب اللندنية