مختار الدبابي
انتهت لعبة الشد والإرخاء مع الرئيس التونسي قيس سعيد التي كان يلجأ إليها الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نورالدين الطبوبي. افترق الطريقان حين اكتشف الطبوبي أن قيس سعيد ليس من نوعية الوجوه التي قابلها الاتحاد في 2013 وما بعدها وضغط عليها وحقق منها مكسبا يضعه في موقع القائد والمرشد الذي يقود البلاد.
شخصية قيس سعيد ليست شخصية زعيم حركة النهضة الإسلامية راشد الغنوشي الذي قبل أن يسلّم حزبه قيادة الحكومة إلى حكومة وحدة وطنية مقابل أن ينجو بنفسه. الرئيس سعيد قال للجميع طالما أن الناس انتخبته وبنسبة عالية جدا، فمن حقه أن ينفذ ما في رأسه من أفكار دون الرجوع إلى أيّ جهة أو مؤسسة أو فرد أيّا كان، فلا سلطة تعلو فوق سلطة ثلثي الناخبين.
والمفارقة أن من يريدون فرض أفكارهم وخرائط طرقهم عليه هم في وضع هامشي حزبيا ونقابيا، فهناك أحزاب صغيرة أغلبها بلا تمثيل في البرلمان وبلا تنظيم ولا مؤسسات قيادية يزور ممثلوها الرئيس سعيد، ويخرجون للناس يتكلمون باسمه ويطلقون تعهدات من نوع أنه قرر تشريك الأحزاب الداعمة لمسار الخامس والعشرين من يوليو في الحوار، أو أنه سيراجع الفصل كذا، مثل ما صدر من كلام فضفاض عن عبيد البريكي بشأن التعديل الحكومي.
هذه أحزاب تعيش في جلباب الرئيس وتريد أن تحكم باسمه بإغراقه في المبادرات والتصريحات، وأن تفرض نفسها في الحوار وتختطفه.
وهناك أحزاب أخرى صغيرة معارضة تبحث عن شرعية لها في المشهد بالدوران حول النهضة بعد أن سعت لأن تكون في محيط الرئيس ثم أهملها. النهضة والاتحاد، الغنوشي والطبوبي، هما الطرفان المستفيدان من الخروج عن صف قيس سعيد. وإذا كان الغنوشي قد عرف مآله واختار الاستنجاد بالمعارضة التقليدية من يسار الوسط ليظهر ليبراليته ويقنع الغرب بأنه ليس وحيدا في مواجهة آلة قيس سعيد، فإن الطبوبي وضع نفسه في مواقع متناقضة، فهو يقول إنه في الطريق الثالث، وتجده في أحايين كثيرة في صف قيس سعيد يتبنى نظرته ويستبقه في تفاصيلها من ذلك دعوته إلى حلّ البرلمان حين كان مجمدا بفعل آليات الخامس والعشرين من يوليو.
ورغم أن الطبوبي يحرص في كل بيان يصدر عن الاتحاد، سواء أكتبه هو أم غيره، على جلد مرحلة ما قبل الخامس والعشرين من يوليو والتبرؤ منها، فإنه وجد نفسه موضوعيا في صف جماعة الرابع والعشرين من يوليو وما قبلها، أي في صف الغنوشي وليس صف قيس سعيد، وهو ما يزيد من الضغوط المسلطة عليه، ويجعله هو والاتحاد موضوعيا ضمن منظومة ما قبل الخامس والعشرين من يوليو التي يجري تفكيكها كليا، ولعل أبرز ملامح هذا التفكيك هو منع الأحزاب من الحوار الوطني مقدمة لوضع قوانين تحول دون مشاركتها في الانتخابات وإبعادها عن السلطة ليس بالمراسيم فقط بل عن طريق صناديق الاقتراع.
ما لم يفهمه الطبوبي أن على السياسيين (طالما أن الاتحاد يبحث عن دور سياسي رئيسي في المشهد) ألا يبالغوا في تقدير أهميتهم أو أهمية ما يمثلونه من أحزاب ومجموعات، وهذه حكمة لم يراعها الطبوبي في علاقته مع الرئاسة في وقت حرج من تاريخ تونس المعاصر، وهو ما قاد إلى توتير علاقته مع الرئيس سعيد، بالرغم من أن الأخير سعى في أكثر من رسالة وتصريح لتأكيد أن لا مشكلة له مع الاتحاد، وأنه يعتبره شريكا في المرحلة القادمة، وأن الأمر يحتاج إلى هدوء من قيادة المنظمة في تقدير الموقف وفهم التغييرات التي تعيشها البلاد بعد الخامس والعشرين من يوليو.
وأرسل الطبوبي خلال لقائه في يناير الماضي مع الرئيس سعيد إشارة إلى أنه التقط رسالة رئيس الجمهورية بشأن التحلي بالهدوء والحكمة والتعقل، وأن “بناء المرحلة الصعبة لا يكون بالفعل وردّ الفعل بل بتضامن وطني حقيقي”، والحاجة إلى “التعلم من الأخطاء السابقة”.
ولم يتجسد ذلك التعهد بالتغيير على أرض الواقع لاعتبارات تتعلق بالتوازنات داخل قيادة الاتحاد، من ذلك أن الطبوبي كان في حاجة إلى “تصعيد” مع الحكومة لتمرير الفصل 20 من النظام الداخلي للمركزية النقابية الذي أتاح له التجديد لنفسه وعدد آخر من عناصر المكتب التنفيذي لدورة جديدة في “الحكم”.
لكن نقطة الخلاف الحقيقية التي تدفع الاتحاد إلى التصعيد حينا والتبريد حينا آخر هي أن قيس سعيد بات يعتمد مقاربة مختلفة تقوم على أن يلتزم كل طرف حدود تحركه التي يفرضها القانون وتقاليد تونس في العمل السياسي والاجتماعي. ولأجل ذلك فقد رفض ما أسماه الاتحاد بخارطة الطريق لإخراج البلاد من أزمتها، وهي خارطة كان الهدف منها الحفاظ على دور الاتحاد كلاعب مهم في اللعبة. ومهمّ هنا تعني أنه فوق الجميع، لا يحكم في الظاهر ولكنه يحكم، يأمر فيطاع، يلوّح بالإضرابات فتسارع الحكومات إلى الاستجابة السريعة حتى وإن غطت ذلك بحوارات صورية.
ما لم يستوعبه الطبوبي والمحيطون به أن القيمة المفترضة لاتحاد الشغل والقائمين عليه ليست ثابتة وليست الآن هي نفسها أيام التسويات وجائزة نوبل. الزمن تغيّر والظروف تغيّرت، والطرف المقابل تغيّر. وإذا كانت الحكومات التي شاركت فيها النهضة أو قادتها قد سارعت في السابق لاسترضاء الاتحاد لأن لديها أجندة أخرى تريد تمريرها، فإن قيس سعيد غير ذلك تماما، فهو يتحرك كشخص، ولا يحسب سوى حساب نفسه، لا يفكر بالتمكين ولا بالاختراق، ولا يرى نفسه في موقع ضعف يفرض عليه التنازل لفلان أو علّان أو استرضاء هذه الجهة أو تلك.
وليس مستبعدا أن يكون قرار الهيئة الإدارية للاتحاد برفض المشاركة في الحوار مناورة للضغط على قيس سعيد ودفعه إلى توسيع فكرة التشاركية التي لا يجب أن تعني فقط المشاركة بالحضور دون حوار مسبق حول محتوى ما ستتم مناقشته في اللجان، والاتفاق عليه ليكون أساسا للمرحلة القادمة.
وهي نقطة مهمة، فالكثيرون من داعمي مسار الخامس والعشرين من يوليو دعّموا موقف الرئيس سعيد في الانقلاب على ما قبل هذا المسار، بكل مكوناته ولاعبيه ومؤسساته، ويريدون بناء مرحلة جديدة بلاعبين مختلفين حول الرئيس سعيد. لكن الأخير ينظر إلى الجميع على أنهم من ميراث ما قبل الخامس والعشرين من يوليو، وأن من حقه أن يبني مرحلة جديدة وبآليات يضعها هو بنفسه، وهذه نقطة الخلاف الرئيسية، فعلي الرئيس سعيد أن ينظر أبعد، فقطار التغيير والإصلاح يحتاج إلى جبهة واسعة على أرضية مشتركة وليس إلى شخص واحد يستنفد أغلب وقته في الردود خاصة في وجود مستشارين بلا خبرات.
بيد الرئيس سعيد أن يجعل الطبوبي في صفه، وألا يلقي به إلى صف الغنوشي. وحتى إن استمرت قيادة الاتحاد في النأي بالنفس عن أيّ تقارب مع النهضة فإنها عمليا ستجد نفسها في صف الغنوشي وجبهة الخلاص، بل هي تخدمها خدمة كبيرة من خلال الدفع إلى الإضرابات من جهة، ووقف التفاوض مع صندوق النقد الدولي الذي يرفض التوقيع على أيّ اتفاق دون حضور جميع الفاعلين، وخاصة اتحاد الشغل.
ومثلما أن على الطبوبي أن يراعي أن الحاجة إلى التغيير تحتاج إلى التواضع والتصرف بعقلية اللاعب الشريك وليس اللاعب الأساسي الذي لا غنى عنه، فإن الرئيس سعيد يحتاج بدوره إلى فتح باب الحوار مع الشركاء والاستماع إليهم والحفاظ عليهم في صفه، فهم إن لم يفيدوه فلن يضروه حين يظلون معه. لكن إن غادروا فهم سيضرونه حتى وإن لم ينووا ذلك ولم يسعوا إليه.
نقلاً عن العرب اللندنية