محمد قواص
في 4 تشرين الثاني (نوفمبر) 1995 اغتيل رئيس وزراء إسرائيل اسحق رابين. أطلق الإسرائيلي إيغال أمير النار على ضحيته أثناء مهرجان سياسي في تل أبيب. علّقت إحدى الوجوه اليهودية الناشطة في فرنسا على الحدث في برنامج تلفزيوني كان يناقش الأمر وحوافزه وتداعياته. قالت إن “ما هو مفجع في الجريمة هو أن يهودياً يقتل يهودياً”.
فظاعة مقتل رابين، بحسب الناشطة اليهودية، تكمن فقط في أن قاتله يهودي، بما يراد له التأكيد أن من يقتل اليهود عادة ليسوا ولا يمكن أن يكونوا يهوداً، وبالتالي فإن اليهود حين يَقتلون فهم يَقتلون، بالعادة، غير اليهود.
على هذا ارتكب وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في مقابلة مع برنامج تلفزيوني إيطالي، الأحد الماضي، محرماً يهودياً دينياً – تاريخياً حين قال إن لأدولف هتلر “دماءً يهودية”. فلو كان الأمر كذلك، وفق المسلّمة اليهودية، لما قتل هتلر اليهود وارتكب ضدهم “المحرقة” الشهيرة. ثم إن في تلميح الوزير الروسي إلى تورط هتلر “اليهودي” بالجريمة ضد اليهود، نسفاً لاستناد الرواية اليهودية – الصهيونية الى مأساة “الهولوكست” مبرراً لقيام دولة إسرائيل.
جرى خلال العقود التي تلت نهاية الحرب العالمية الثانية الترويج لنظريات تشكك في رواية “المحرقة”. بعض المؤرخين الغربيين نفوا وجودها وبعضهم خففوا من وقعها وذهب زعيم اليمين المتطرف الفرنسي جان ماري لوبن عام 1987 إلى اعتبار أن غرف الغاز هي “تفصيل” في التاريخ. دفع لوبن ثمن الأمر جنائياً وسياسياً، وما زالت ابنته مارين وحزبها يدفعان ثمن هذه الخطيئة (من ضمن خطايا أخرى) التي ارتكبها والدها.
داخل كثير من البلدان الغربية فرضت الحكومات إدراج تاريخ “المحرقة” داخل البرامج التعليمية، وسنّت قوانين تؤثّم المشككين بها وتُنزل بمن يرتكب “مراجعة للتاريخ” أو ينفي وجود “الهولوكست” عقوبات قاسية رادعة. ولأن الرواية لا تُراجع ولا تخضع لتحديث أو نقد، فإن لافروف، والأرجح من دون أن يدري، مسّ محرمات وحرّك مياه وجب أن تظل راكدة ساكنة من غير المسموح تعكيرها.
لم ينفِ لافروف “الهولوكست” وعذابات اليهود على يد النازيين. لكنه بإيحائه أن جلاد اليهود يهوديُّ الأصل، فإنه يلمّح إلى أن للنازية القديمة أباً يهودياً حكم ألمانيا، وبالتالي فإن ذلك يتّسق مع إدعاء زعامة رئيس أوكرانيا “اليهودي” فولوديمير زيلنسكي لـ “النازية الجديدة” التي تسوّق روسيا لاجتثاثها هدفاً نبيلاً لحربها هناك.
على هذا فلا عجب من هذا الغضب الإسرائيلي من تصريحات لافروف وطلب الندم والاعتذار. فإسرائيل تهيمن على الرواية اليهودية في الزمن الراهن، وهي الحريصة على صيانة السردية الوحيدة التي تحافظ على “احتكار” اليهود لمظلومية القرن الكبرى التي لا تنافسها مظلوميات أخرى. فاليهود لا يَقتلون يهوداً حتى لو تدخل استثناء عابر في التاريخ اليهودي فقتل رابين، بل هم ضحية دائمة لجرائم يرتكبها غير اليهود. ثم إن لا جريمة في التاريخ تضاهي “الهولوكست”. حتى أن إسرائيل استاءت من زيلنسكي حين شبه في حضرة الكنيست الحرب الروسية على بلاده بـ “الهولوكست”.
غير أن ما اقترفه لافروف، وهو الدبلوماسي المحنك العريق، يعبّر عن نزق مفاجئ في توفير الحجج للرد على “العدو” في أوكرانيا. جرى أن كييف وفي معرض دفعها للتهم التي كالتها لها موسكو حول سيطرة “النازيين الجدد” على قرار الحكومة الأوكرانية ومفاصل السلطة في البلاد، كررت أن زيلنسكي يهوديٌّ ولا يمكن ليهودي أن يقبل بوجود نازي داخل حكومته.
في هذا التمرين أيضاً تنزيه غير منطقي لرجل السياسة اليهودي فقط لأنه يهودي. يشبه الأمر مفاجأة الناشطة اليهودية الفرنسية حول صدمتها من أن يكون قاتل اليهودي يهودياً. لم تكتفِ منابر أوكرانيا بنفي المزاعم الروسية من خلال تأكيد هامشية الوجود النازي السياسي الذي لم تنل أحزابه إلا 2 في المئة في آخر انتخابات أجريت في البلاد، بل اضطرت من أجل إفحام الطرف الروسي بـ “الضربة القاضية” أن تعوّم يهودية رئيسها حجّة ودليلاً.
في المقابل، فإن لافروف الذي على ما يبدو قد ضاق صدره من يهودية الرئيس الأوكراني، لم يستطع ضبط خطابه، وسعى هو الآخر إلى قذف ردّ مُفحم صاعق بإقحام رواية تاريخية تزعم يهودية هتلر. وفيما خصوم روسيا استنتجوا من تصريح الوزير “لا سامية” روسية متجذّرة لطالما اتُّهمت بها موسكو منذ أن كانت سوفياتية، فإن آلية الردّ على حجّة يهودية بحجّة يهودية مضادة كشفت انحداراً في مستوى الخطاب السياسي لدولة عظمى مثل روسيا يُفترض أنها تقارع العالم وتمنُّ النفس بزعامة داخله.
ووظيفة “اليهودي” في هذا السجال شهدت واجهات لها في فرنسا في تفسير ظاهرة صعود المرشح الشعبوي إيريك زيمور أثناء الحملة للانتخابات الرئاسية الأخيرة.
حمل زيمور، وهو يهودي من أصول جزائرية، أفكاراً قومية شعبوية يمينية متطرفة. ولئن سُجل استغراب المراقبين لقيام يهودي بالترويج لأفكار هي من صلب العقائد النازية والفاشية القديمة، فإن يانيك جادو، مرشح حزب “الخضر” في تلك الانتخابات، وصف زيمور بأنه “واجهة يهودية” تُستخدم لتبرير خطاب اليمين المتطرّف، أي أن نازييّ هذا العصر يتلطون خلف يهودي في فرنسا، ما أثار جدلاً وانتقاداً لرواية جادو ومنطقه. وحين وجهت اتهامات لزيمور بأن نازيين يدورون في فلكه ردّ المرشح الشعبوي بدوره مستغرباً أن يتهموا يهودياً بذلك.
وفيما تسعى إسرائيل بيأس للحفاظ على موقف محايد في الصراع الدائر بين موسكو وواشنطن داخل ميدان أوكرانيا، فإن السجال حول “اليهودي” يهزّ قلاعاً فكرية حرّمت تناوله، في وقت لا تريد الذاكرة اليهودية أن يقرع الجدل الجديد باب “تاجر البندقية” الشكسبيري ويحقق في أمر شايلوك.
* نقلا عن ” النهار”