فيصل اليافعي
جاءت الحرب الروسية على أوكرانيا لتمنح الجيش المصري فرصة من ذهب يؤكد من خلالها قدرته على تجاوز الأزمات وخاصة الأزمة الغذائية المتفاقمة، لكن الحكومة باتت في حاجة ملحة إلى الموازنة بين دور الجيش والدور المدني لتجنب أي خلل بين مؤسسات الدولة قد ينقلب ضدّ مصلحة البلاد.
بعد مرور أسابيع، يواصل الشرق الأوسط ممارسة فن الحياد بشأن الحرب في أوكرانيا، غير راغب في مساندة أي طرف علنا في صراع يرى الكثيرون أن لا ناقة لهم فيه ولا جمل.
لكن الحرب تؤثر بالفعل على دول المنطقة، لاسيما تلك التي تعتمد على العلاقات مع روسيا أو الواردات منها. وتأتي على رأس هذه الدول مصر، أكبر دولة في الشرق الأوسط، والتي تواجه أزمة في الأمن الغذائي والاقتصاد تفاقمت جرَّاء الحرب.
تعرضت مصر لضربتين مؤلمتين بسبب الصراع الروسي – الأوكراني؛ فهذا البلد أكبر مستورد للقمح في العالم، ويحصل على 80 في المئة من إمداداته من روسيا وأوكرانيا، ومن ثم فهو على أعتاب اضطراب خطير محتمل.
وإلى جانب هذه الحالة من عدم اليقين، تأتي مشكلة الأسعار؛ إذ توفر مصر الخبز المدعوم لما يقرب من ثلثي سكانها، أو حوالي 70 مليون شخص. وهذا كم هائل من النفقات.
في الوقت نفسه، تواجه السياحة في مصر، والتي تمثل جزءا رئيسيا من اقتصادها وقد تضررت بالفعل من الوباء العالمي، احتمال فقدان السائحين من روسيا وأوكرانيا أكبر سوقين للسياحة فيها. فوفقا لأحد التقديرات، يمثِّل السياح من البلدين 40 في المئة من جميع زوار شواطئ البلاد.
في ظل كل ذلك، دفع عاملا الضغط المحتملان الحكومة المصرية إلى التحرك، وذلك من خلال رفع أسعار الفائدة وخفض قيمة الجنيه المصري، ما يعني أن عشرات الملايين من المصريين الذين لديهم مدخرات في بنوك البلاد انخفضت قيمة أموالهم بنسبة 15 في المئة بين عشية وضحاها. بالإضافة إلى ذلك، تسعى القاهرة إلى الحصول على مساعدات واستثمارات من الدول العربية في الخليج وصندوق النقد الدولي.
على المدى القصير، من المحتمل أن تتغلب مصر على هذه الصعاب الاقتصادية، بمعاناة من جانب المواطنين المصريين العاديين. لكن التأثير طويل المدى للحرب في أوكرانيا سيكون ترسيخا للدور المركزي الذي يلعبه الجيش المصري في الاقتصاد الوطني؛ فالتغيير الذي كان يتطور على مدى عقد من الزمان ستزيد وتيرته الآن بسبب حرب في الجانب الآخر من العالم.
لطالما لعب الجيش المصري دورا في الاقتصاد، لكن في ظل حكم حسني مبارك، الذي كان جزءا من سلاح الطيران، كان هذا الدور محدودا نسبيّا. أما بعد أن تولى الجيش السلطة في عام 2013، توسعت هذه المشاركة على نحو مطرد. فقد ورث عبدالفتاح السيسي، وهو ضابط سابق، دولة ضعيفة استنزفتها عقود من حكم شخص واحد وفترة الفوضى التي أعقبت الثورة.
الدور المتضخم للجيش يضعف الدولة والقطاع الخاص؛ فالشركات الخاصة غير قادرة على منافسة الجيش
لذا، فقد اعتمد السيسي على الجيش الذي كان ينتمي إليه، مستعينا به في تقديم الخدمات وإدارة المشروعات التي كان ينبغي أن تتولاها جهات أخرى في الحكومة. وكانت النتيجة النهائية بعد ما يقرب من عقد من الزمان ترسيخ قوة الجيش بدرجة غير مسبوقة.
يسيطر الجيش حاليا على ما يقدر بنحو 25 في المئة من إجمالي الإنفاق الحكومي، وذلك من خلال إدارة كل من السلع العامة مثل الإسكان والخدمات مثل الطعام. فتعمل الشركات العسكرية في صناعة الأغذية والإلكترونيات، وإدارة الموانئ والمناطق الصناعية، وتوريد الأدوية، والإشراف على القرارات المتعلقة بالتخطيط والاتصالات. ومن ثم، فإن الجوانب الاقتصادية التي ليس للجيش يد فيها حاليا قليلة للغاية.
هذا الدور المتضخم للجيش يضعف الدولة ومؤسساتها والقطاع الخاص؛ فالشركات الخاصة غير القادرة على منافسة الجيش قد تمت مزاحمتها في تولي، مثلا، مشروعات البنية التحتية الكبرى. ودون هذه الخبرة داخل البلاد، لن تتمكن هذه الشركات من منافسة أقرانها في الخارج. وبدلا من تطوير المعرفة المؤسسية الحكومية للصناعات العاملة، تلعب الوزارات دورا داعما للجيش السري، ما يزيد من تهميش الخبرات التي يجب أن توجد بشكل صحيح داخل الحكومة.
إن الأزمة الحالية لن تؤدي إلا إلى تسريع هذه العملية. والزيادة السريعة في أسعار المواد الغذائية الناجمة عن حرب أوكرانيا يجب أن تجعل مصر تدرك أنها بحاجة إلى إعطاء الأولوية لأمنها الغذائي. لكن الكيفية التي يحدث بها ذلك هي التي سترسخ قوة الجيش.
◙ مصر أكبر مستورد للقمح في العالم، وتحصل على 80 في المئة من إمداداته من روسيا وأوكرانيا
في عهد السيسي، اتجهت الحكومة المصرية إلى اعتبار الجيش الحل لكل مشكلة، وهذه الأزمة الأخيرة ليست استثناء. فالجيش يُعِّد صناديق المواد الغذائية الأساسية (أرز ومعكرونة ولحوم) ويوزعها ويبيعها في جميع أنحاء الدولة بموجب مرسوم رئاسي مقابل نصف السعر الحالي لها. هذا يعني أن الدولة المصرية تدعم ملايين الوجبات، بالإضافة إلى دعم الخبز.
لكن هذا إجراء مؤقت؛ فسيتبع ذلك تغييرات أكبر. وسيكون أحد الخيارات المتاحة زيادة كمية القمح المزروع محليا، الأمر الذي قالت الحكومة إنها ستفعله في بداية شهر مارس. ومن شبه المؤكد أن المزارع التي ستزرع هذه المحاصيل سيديرها الجيش.
ومن الخيارات الأخرى أيضا تولي الجيش دورا أكبر في التخصيص والتوزيع، وهو أمر آخر تكون فيه أوجه القصور باهظة الثمن؛ فمرة أخرى، مثل هذا الدور الضخم للجيش يرسخ فقط امتيازاته، ويعني أن الشركات الأخرى لا سبيل أمامها للمنافسة.
في الوقت الراهن، خلق دور كبير للجيش يعود بالنفع على مؤسسات الدولة والرئاسة. لكن مصر تعمل بشكل أفضل عندما توازن مختلف أجزاء الدولة والقطاع الخاص قوة بعضها البعض؛ بمعنى أن الميل أكثر من اللازم نحو جانب واحد أمر خطير على المدى الطويل. ومن ثم، فإن حرب فلاديمير بوتين في الخارج تساعد الجيش المصري في الواقع على الازدهار في الداخل.
المصدر العرب اللندنية