علي الصراف
“السياسة بلا أخلاق”. هذه قاعدة معروفة. والاقتصاد أيضا. فالمصالح مصالح، ولكل منها إله مزيف يبرره في الدعاية وفي الثقافة العامة. وصراعات المصالح هي التي صنعت عالمنا. وفرضت علينا ما فرضت.
السعودية هي التي شقت الطريق من أجل النأي بأمن الطاقة عن تقلبات الصراعات السياسية والحروب. وتحولت سياستها إلى منهج دولي ظل موضع تقدير بعدما عرف العالم أثر الصدمة في العام 1973.
في ذلك الوقت أعلنت الدول العربية المصدرة للنفط مقاطعتها لكل الدول التي تدعم إسرائيل، فاكتشف الغرب ارتهانه للنفط، وأن لهذه السلعة قيمة اقتصادية أعلى مما كان يُفرض عليها. السوق تحرر منذ ذلك الوقت. والسلعة اكتسبت أهمية استراتيجية. فحرصت السعودية على أن تبقيها كسلعة، لا كأداة من أدوات السياسة وصراعاتها.
المقاطعة نفسها كانت قسطا مشهودا للدول النفطية العربية في حرب أكتوبر ذلك العام التي مكنت مصر من تحرير سيناء، وقدمت التطلع السوري لتحرير الجولان كمسعى جاد (قبل أن يخمد من جديد).
تحرر أسعار النفط وفر للدول النفطية عائدات غير مسبوقة، وأعاد لفت انتباهها إلى ما حُرمت منه: أن تكون دولا نامية فعلا.
روسيا التي أصبحت في ما بعد واحدا من أكبر مصدري النفط والغاز، تبنت المنهج السعودي نفسه، إنما بحسابات أخرى. فما بدأ بريئا ومكتفيا بالعائدات ومن دون أطماع خارجية، انقلب إلى أمن ملغوم بالمصالح والأطماع الجيوسياسية.
ما تزال روسيا تحافظ في علاقاتها التجارية المتعلقة بالطاقة على المبدأ نفسه. إلا أن غزو أوكرانيا كشف عن الوجه الآخر. وهو أن موسكو أرادت أن تكبل يد الحلفاء الغربيين عن مواجهتها، بدفعهم إلى الارتهان لما تقوم بتصديره من نفط وغاز.
الأوروبيون وقعوا بالفخ أمام مصدر رخيص للطاقة. حتى ليجوز القول إن روسيا أرادت أن تشتري عجزا أوروبيا أمنيا مقابل عقود نفط وغاز أرخص.
الشراهة الأوروبية انتهت إلى مأساة مرتين. الأولى، عندما تحررت الأسعار من الضغط من جديد. والثانية، عندما اكتشفت أوروبا أن ارتهانها للنفط والغاز الروسيين لم يكن مجرد ارتهان لعلاقات السوق الطبيعية، ولكنه ارتهان أمني.
الولايات المتحدة وأوروبا اللتان كانتا المستفيد الأول من سياسة النأي بأمن الطاقة عن تقلبات الصراعات والحروب، تريدان الآن أن تقلبا الوجهة لكي تحاربا روسيا بأهم مصادر دخلها.
هذه “تجربة تطبيقية” خطيرة على كل المنتجين الذين إذا وجدوا أنفسهم في نزاع، فإن أمنهم الاقتصادي يمكن أن يتعرض للتهديد إذا تخالفت المعايير السياسية والأخلاقية.
غزو أوكرانيا يبدو ظالما، وينطوي على نزعات توسعية، وتُرتكب فيه جرائم ضد الإنسانية، ولا يقصد ما يقدمه من معاذير، وتستغلُ فيه قوةٌ عظمى تفوقها العسكري لفرض “الاستسلام” على شعب آمن.
كل هذا صحيح. ولكنْ، لاحظ أن هذا كله يقوم على معايير “الحق” و”الباطل”، وهي معايير أخلاقية مهمة، إلا أنها ليست معايير اقتصادية.
الرؤية السعودية لسياسة النأي بالطاقة عن النزاعات قصدت تحييد النفط عن “الحق” و”الباطل”، وهو ما جلب إليها انتقادات كان لها أول ولم يكن لها آخر، وذلك على امتداد عدة عقود تلت حرب أكتوبر. فـ”الحق” كان معنا. وكان الآخرون هم على “باطل”، وهو ما كان يعني، بالنسبة إلى المدافعين عن الحق، أن يعود النفط ليكون “سلاحا في المعركة”.
احتاجت دول الخليج إلى أن تدفع الكثير من أمنها الخاص لكي تثبت أن سياسة النأي بالسلعة صحيحة. لاسيما وأنها تنطوي على تصور مختلف لطبيعة “المعركة”. إنها معركة تنمية بالدرجة الأولى. لا معركة قعقعة أسلحة. والسلاح الذي لا يقف على أرض اقتصاد قوي، سوف يظل مهزوما دائما.
التجربة العملية، في خسارة عدة حروب، كانت كافية لوحدها لكي تثبت أن أمة ضعيفة في اقتصادها وتغرق مجتمعاتها بالفقر والأمية، لا تستطيع أن تحقق انتصارات عسكرية باهرة.
هذا الاستنتاج لم يُدرك بسهولة. وما يزال من المستغرب لبعض ذوي القناعات القديمة، كيف أن الإمارات تضع التنمية الاقتصادية على رأس جدول أعمالها السياسي، لتختار تصفير المشاكل، تصفيرا لا لبس فيه.
يقف الجميع الآن أمام منقلب عاد ليضيف الأخلاقيات إلى المعادلة الاقتصادية التي ظلت إلى ما قبل الرابع والعشرين من فبراير الماضي معادلة مجردة.
الحق والباطل، في النزاعات السياسية، هما في النهاية وجهات نظر. جنود جبهتي القتال في الحربين العالميتين الأولى والثانية كانوا يقولون جميعهم “إن الله معنا”. والله، في الواقع، لم يكن مع أي منهما، لأن الحربين كانتا، في الأساس، حرب أطماع استعمارية على الجبهتين.
الآن، الله مع مَنْ؟
جواب التحالف الغربي يقول إنه مع أوكرانيا. وجواب الروس يقول إنه معهم. والمفارقة هي أن الحياد نفسه، الذي يبدو على كفاية اقتصادية، ليس على كفاية أخلاقية. وهو ما يجعل المعضلة شائكة.
قادة النظام الدولي يريدون أن يقلبوا معادلة أمن الطاقة لعزل روسيا، وتاليا لعزل الصين، أو في الأقل تهديدها، لكي لا تخرج عن حدود ما يسمحون به.
مرة أخرى، فإن الأخلاقيات التي تقف في صف الأوكرانيين لا تقف في صف حلفائهم الغربيين بالضرورة. هؤلاء يستعملون إلها مزيفا، يشبه الإله المزيف الذي يستخدمه الروس.
روسيا التي قدمت نفسها كتهديد جسيم لأمن أوروبا، لم يعد لها الحق في أن تكون قوة عظمى، ولا حتى أن تكون طرفا مقبولا في المؤسسات الدولية. والنقاش يجري الآن حول ما إذا كان يمكن طردها من مجموعة العشرين، أو يمتنع 15 عضوا في المجموعة عن المشاركة في أعمالها.
ومن غير المستبعد تماما أن تتحول الدول التي لا تختار الإله الغربي المزيف إلى عدو هي نفسها.
الحرب في أوكرانيا أصبحت صراعا دوليا مكشوفا، أو حتى حربا عالمية ثالثة، لا ينقصها إلا استخدام الأسلحة النووية. والحرب العالمية تعني، بالنسبة إلى من يمتلكون أدوات استراتيجية، انحيازا لمعسكر دون آخر. لا مزاح في ذلك.
الذين يعرفون الروس، يعرفون أن “رأسهم ناشف”. والذين يعرفون المصالح الغربية وطبيعة نظامها الدولي، يعرفون أن رأسها أنشف.
الأسعار تحررت من جديد، مثلما تحررت في العام 1973. وفي هذا ما يُمجد الحرص على متابعة مسارات التنمية. ولكن المعادلة انقلبت. وصار مطلوبا للنفط أن يكون “سلاحا في المعركة”. وعليك أن تختار إلها مزيفا لكي تحتمي به.
نقلاً عن العرب اللندنية