إبراهيم الزبيدي
ألا تذكركم أوامر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لجيشه الداخل إلى أوكرانيا بأن يحتل أوكرانيا كلها ويقيم نظام حكم جديدا تابعا له بصدام حسين في أغسطس 1990؟
فكما آمن صدام حسين بأن الكويت أصبحت في جيبه، وبأنه بهجومه الكاسح المباغت قد أحرج أميركا والسعودية وأوروبا والعالم، ووضع الجميع أمام الأمر الواقع، وصدّق بأنه أصبح الآمر الناهي في الكويت والخليج والمنطقة والعالم، والوحيد الذي سيُحدد أسعار النفط وكميات إنتاجه وتصديره والدولَ التي يباع والتي لا يباع لها، على هواه ووفق مزاجه وحده، فإن بوتين اليوم هو الآخر يعيد تمثيل نفس المسرحية البائسة التي دفع فيها الشعب العراقي عشرة ملايين دولار للكويت تغريما عن كل قنينة عطر أو ثلاجة أو تلفزيون أو سيارة سرقت من الكويت، بغض النظر عن حقيقة حدوث السرقة، وعن هوية السارق الحقيقي الذي قد لا يكون عراقيا، ناهيك عن مقبرة الدبابات والمصفحات وناقلات الجنود التي دُمرت أو أحرقت، وبداخلها جنودُها وضباطها، بصواريخ العم سام التي بررها، يومها، الرئيس الأميركي جورج بوش الأب، ووزير خارجيته جيمس بيكر، والقائد الأميركي لقوات التحالف الدولي نورمان شوارزكوف، بأنها فقط لنجدة شعب مظلوم، وللدفاع عن العدالة الدولية التي انتهكها صدام حسين، ولمنع حاكم دولةٍ آخر من غزو دولة مجاورة أخرى مستقلة وذات سيادة، في المستقبل، وهم كاذبون؟
ويبدو أن بوتين قد اعتقد بأن أوكرانيا لقمة سائغة، وقد انتهى أمرها وأصبحت في جيبه الصغير، وصار من حقه أن يعيد تركيب أوروبا والعالم على هواه ووفق مزاجه، ناسيا أنها ليست شيشان 1994، ولا جورجيا 2008، ولا القرم 2014، ولا سوريا 2015، وأن نشوة الانتصار السريع قد لا تدوم.
إنه يخطئ اليوم، مثلما أخطأ صدام بالأمس حين لم يضع في حسابه احتمال الفشل والمقاومة، ولم يتوقع أن تستدعي السعودية جيوش أميركا وبريطانيا وكندا وفرنسا وسوريا ومصر وتركيا، وأن تحشد مليون مقاتل وأطنانا من الأسلحة الحديثة المتطورة التي لم تُجرب من قبل، والتي أريد تجريبها على جنود الجيش العراقي وضباطه في الكويت، وعلى طوابيرهم وهم في طريق عودتهم إلى العراق.
ومن خلال تصريحات فلاديمير بوتين المليئة بغرور القوة والعناد يتبين أنه مؤمن بأن جيرته لأوكرانيا والمشتَركات الجغرافية والتاريخية والسياسية والعقائدية مع الأوكرانيين سوف تجعل هيمنته على مدن أوكرانيا وقراها أسهل بكثير من هيمنته على حلب وحماة وحمص ودرعا واللاذقية والغوطة ودمشق، ومثلما سكتت له أميركا وأوروبا ودول عربية عديدة توهم أن تسلم الجرة هذه المرة أيضا ودون ريب أو جدال.
يبدو أن بوتين قد اعتقد بأن أوكرانيا لقمة سائغة، وقد انتهى أمرها وأصبحت في جيبه الصغير، وصار من حقه أن يعيد تركيب أوروبا والعالم على هواه ووفق مزاجه
هكذا رأى غزوَه الجديد. أما نحن فقد رأيناه شيئا آخر مختلفا تماما؛ رأينا أنه وضع نفسه بين طرفيْ كماشة لا ترحم.
وبحرب ناعمة أغلقت دول جواره جميعها أجواءها أمام طيرانه، وأقفلت المصارف الغربية والأميركية أبوابها في وجه حركة التجارة والمال.فبولندا والمجر والتشيك والنمسا والسويد وألمانيا وهولندا وفرنسا وبريطانيا، ومعها أميركا، قد اختارت أن تقف بجد وقوة وتصميم مع الرئيس الأوكراني، مدفوعةً بحسابات مصالح وضرورات أمنية واقتصادية مختلفة، بهدف إعانة الأوكرانيين على المقاومة والصمود لتجعل هذه الحرب البوتينية حربَ سنوات مريرة وطويلة قادمة.
وفي كل الأحوال لا أحد يتوقع أن يتراجع ويكتفي بمن قَتل، وبمن شرد، وبما هدم وأحرق من منازل وجسور ومطارات وموانئ. فسوف تمنعه كبرياؤه من ذلك، مثلما منعت صدام حسين قبله من الانسحاب من الكويت قبل خراب البيوت.
أما الذي سيدفع الثمن الأكثر مرارة فليس الرئيس ولا الحكومة ولا الجيش فقط، بل الشعب الروسي الذي سوف يُحاصر في وطنه، فلا يبيع ولا يشتري، وسيتعب كثيرا في الحصول على الغذاء والماء والدواء، تماما كما حدث للمواطن العراقي في سنوات الحصار المريرة السابقة.
كما أن المتضرر الأول والأكبر هو المواطن الأوكراني الذي أفاق من نومه ليجد منزله محترقا، وسيارته محطمة، وأن أسرته أصبحت مهجَّرة إلى دول الجوار لتعيش في مخيمات اللاجئين، أو تظل محاصرة في أنفاق محطات القطار.
شيء آخر؛ إن بوتين بغزوه الجديد، وبهذه العنجهية الفاقعة، عمق في العقل الشعبي الأممي صورة الحاكم القومي المتكبر المتجبر الذي يساند الإثم والعدوان، ويكره البرَّ والإحسان، ولا يصادق إلا كل دكتاتور ظالم وقاتل وشرير.
وإلى هنا ينتهي الحديث عن غزوة الرئيس الروسي لأوكرانيا، وعن دوره التدميري الذي تجاوز كل الحدود المعقولة والمقبولة، ولم يبق علينا سوى أن نتأمل قضية بقائه في سدة الرئاسة الفعلية كلَّ هذه السنين، وسر حصوله في جميع الانتخابات السابقة على ما يزيد على خمسة وسبعين في المئة من أصوات المُقترعين، لنجد أنفسنا أمام مسألة خطيرة ودقيقة تحتاج إلى وقفة طويلة لتحليلها وتمحيصها واستخلاص الحقيقة الصادمة التي تختفي وراءها.
يعني أن خمسة وسبعين في المئة من أفراد الشعب الروسي موافقون ومُباركون وداعمون ومؤمنون بصواب ما فعله رئيسهم، وما يفعله، وما يخطط لفعله غدا وبعد غد.
بعبارة أكثر وضوحا، إن مئة وعشرين مليونا من المواطنين الروس لم تُفلح في تهذيبهم وتعديل سلوكهم وتبريد سخونة عنجهيتهم القومية العنصرية المتعالية كلُّ سنين العهد الماركسي اللينيني الطويل، وكلُّ خطابات القادة البلاشفة عن حرية الشعوب واحترام كرامة البشر، وعن حقوق الكادحين التي وضعوها فوق كل اعتبار.
نقلاً عن العرب اللندنية