حسن إسميك
بعد استضافتها لدورة الألعاب الأولمبية التاسعة والعشرين عام 2008، تعود بكين اليوم إلى صدارة المشهد الرياضي والاهتمام العالمي، لكن من خلال دورة الأولمبياد الشتوية التي وإن لم تكن على مستوى نظيرتها الصيفية في الأهمية، إلا أنها تظل ضمن الأحداث الرياضية الخمسة الأولى في المتابعة على مستوى العالم. بدأت منافسات هذه الدورة على أرض العاصمة الصينية في الرابع من شباط – فبراير الجاري، رغم المناخ السياسي العالمي المتوتر بالعموم، وحيال الصين خصوصاً، والذي تجلى في دعوات مقاطعة سبقت الحدث العالمي، وفي الحضور الرسمي “المتواضع” الذي شهده حفل الافتتاح.
مع اقتراب الحفل من نهايته، وقف رئيس اللجنة الأولمبية الدولية توماس باخ على المنبر وتحدث عن رسالة الوحدة رغم رسالة الصراع التي يحملها الحدث، وقال “هذه هي مهمّة الألعاب الأولمبية، حيث تجمعنا معا في منافسة سلمية، نبني دائماً الجسور، ولا نبني الجدران أبدا”.
لكن في مقابل هذا الكلام الجميل، والذي يهدف إلى التأكيد على فصل الرياضة عن السياسية، لا أظنه يخفى على السيد باخ أو على أي أحد أن دورة الألعاب الأولمبية هذه، محملة بكثير من المعاني السياسية، والرسائل والإشارات، بعضها واضح وصريح، وبعضها مخفي أو ربما أقل وضوحا.
أوضح الإشارات تظهر من الوفود الرسمية التي توجهت لحضور حفل الافتتاح، وإذا كان جورج بوش الابن قد جلس إلى جانب الرئيس الصيني في افتتاح أولمبياد 2008، فقد قاطعت الولايات المتحدة الحدث الشتوي الحالي وقادت حملة دبلوماسية لذات الغرض، احتجاجا على حالة حقوق الإنسان في هونغ كونغ ومنطقة شينجيانغ والتبت ومنغوليا الداخلية. انضمت بريطانيا وأستراليا وكندا والهند إلى المقاطعة الأميركية، وكذلك الدنمارك وهولندا واليابان التي قررت حجب وفودها الرسمية عن بكين دون تحديد الأسباب رسميا (هل بداعي بروتوكولات كورونا أم احتجاجا على موضوع حقوق الإنسان؟). ولم تتبع كوريا الجنوبية وألمانيا مقاطعة بايدن، ولا إيطاليا وفرنسا خاصة أن الأخيرتين ستستضيفان الأولمبياد المقبل (باريس 2024 وميلانو كورتينا 2026)، وهم بالتالي بغنى عن “انتقام” الصين، التي هددت بأن أولئك الذين يقاطعون “سيدفعون ثمن أفعالهم الخاطئة”.
الصين تسعى مع روسيا، إلى تمتين منظومة تحالف شرقي مقابل حالة القلق التي تجتاح الغرب منذ مطلع العام
في المقابل، وفي استعراض واضح للقوة، رفضت بكين كل الانتقادات الموجهة لها بشأن الأويغور باعتبار القضية شأنا داخليا، وأنكرت أي أدلة على إجراءاتها الأمنية القسرية ضد السكان في شينجيانغ، وشجبت بغضب المزاعم الغربية بأنها ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية. وبدأ حفل الافتتاح بممثلين عن جميع المجموعات العرقية الـ56 المعترف بها رسميا في الصين، بما في ذلك الأويغور، يقفون معا في “وئام” ويمررون العلم الصيني عبر إستاد بكين الوطني.
وأضاء المرجل الأولمبي رياضيان صينيان، أحدهما متزلج أويغوري. وهذا ما عكس إصرار الصين على استثمار الحدث الرياضي سياسيا وبالحدود القصوى، الأمر الذي أثار “جنون” منظمات حقوق الإنسان، فأعلنت منظمة هيومن رايتس ووتش عبر تغريدة على موقع تويتر أن إضاءة أويغوري للشعلة هو “إن الحكومة الصينية لا ترتكب جرائم ضد الإنسانية فحسب، بل تتباهى بها أيضا”.
وإذا كانت المقاطعة تعني شيئا، فالحضور بالمقابل يعني أشياء.. أبرز من شارك في حفل الافتتاح هو دون منازع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي التقى قبل ساعات من بدء الحفل بنظيره الصيني، وبعد الاجتماع، أصدر الكرملين بيانا مشتركا باسم الطرفين، أعربت فيه بكين عن دعمها لموسكو في مجموعة من قضايا السياسة الخارجية، بما في ذلك إصرار روسيا على وجوب عدم انضمام أي دول جديدة إلى حلف شمال الأطلسي الذي تقوده واشنطن، ودعت الحلف إلى “التخلي عن مقاربته الأيديولوجية للحرب الباردة”، ما يعكس وبشكل واضح شدة التقارب الروسي – الصيني على وقع ارتفاع منسوب التوتر مع الغرب بشأن عدد من القضايا الأمنية، بما في ذلك مستقبل أوكرانيا. ومن الواضح أن توجيه رسائل حول الدعم الصيني الكامل لروسيا، ضمن حدث رياضي تدّعي الصين أنها تريده بعيدا عن السياسة، يشير بوضوح إلى أن التحالف الصيني الروسي ليس بالهشاشة التي يظنها الغرب.
وما يؤكد ذلك أيضا أن روسيا من جانبها لم تستجدِ موقف الصين ليكون في صفها تجاه الأزمة الأوكرانية، بل لقد جاء هذا الموقف كجزء من صفقة متبادلة ومربحة للطرفين المتحالفين، قدمت فيها روسيا بالمقابل دعمها للصين حول الجزيرة التايوانية، إذ عبّر البيان المشترك، وبلغة واضحة تماما عن “أن روسيا تعتبر تايوان جزءا لا يتجزأ من الصين، وتعارض استقلال الجزيرة بأي شكل من الأشكال”، بمعنى آخر أن روسيا تؤكد دعمها لمبدأ “صين واحدة”، والذي تعتبره بكين شرطا أساسيا لإقامة علاقاتها الدبلوماسية مع جميع الدول، حيث لا يمكن لأي دولة تعترف بتايوان أن تقيم علاقات دبلوماسية مع بكين قبل أن تقطع علاقاتها مع تايبيه – العاصمة التايوانية.
في ذات السياق، لا يمكن إلا أن نرى الألعاب الأولمبية المقامة في الصين اليوم، كنوع من حرف الأنظار يمارسه الصيني كدعم لحليفه الروسي، ومثلها المماطلة الإيرانية في مفاوضاتها النووية كي تمنع الغرب من التركيز على قضية أوكرانيا، هذا الدعم الكبير الذي يحصل عليه بوتين من حلفائه قد يدفعه إلى المزيد من التصعيد في أوكرانيا، ولئن كنت أستبعد أن يلجأ إلى غزو وحرب شاملة، إلا أني أرى دعمه لانفصالٍ فعلي يقوده روس -أو من أصول روسية- في إقليم دونباس شمال أوكرانيا، بات قاب قوسين أو أدنى، وما الطلب الذي رفعه الدوما للرئيس الروسي (للموافقة على منح المناطق الانفصالية حق الانضمام إلى روسيا) إلا دليل واضح على ذلك.
التصعيد في أوكرانيا خيم على أولمبياد بكين
من جهة أخرى، وإذا كان الحضور في حفل الافتتاح دليلا على متانة أحلاف قائمة، فهو أيضا إشارة إلى تحالفات أخرى قيد البناء، فقد ظهر كل من الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي وولي عهد دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان في الحفل، في حين تغيّب ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لكنه لم يتبن موقف المقاطعة الغربي، بل أرسل وفدا رفيع المستوى ليشهد مشاركة أول فريق سعودي في هذا الحدث.
إن الحضور الرسمي والعالي المستوى لهذه الدول، والتي لطالما اعتُبرت تقليديا من حلفاء واشنطن وحُسبت على الخط الأميركي.. ينبّه إلى أن تحالفات الصين النامية في وسط وغرب آسيا متينة أيضا، ويمكن أن تتوسع وتزداد وتتعمق في اللحظة التي تفقد فيها هذه الدول أملها أو الباقي من ثقتها بحليفها الأميركي. بمعنى أن من اعتادوا أن يكونوا حلفاء لأميركا يرغبون اليوم وبشكل جدي في تفعيل منظومة علاقات وتحالفات بديلة توفر لهم مساحة كبيرة خارج دائرة التأثير الأميركي المباشر، لأنهم وكما يبدو قد فقدوا ثقتهم بالحليف الأميركي الذي لا تكاد تنقطع أخبار انسحابه وتخليه المستمر عن التدخل في الملفات الدولية، والبديل موجود وقوي و”مرهوب”.
إذن، الصين على أهبة الاستعداد لكل ما من شأنه دعم تحالفات جديدة لها خارج السرب الغربي، أو تمتين وتوسيع تحالفاتها الحالية، وبخاصة في منطقة منتصف العالم بينها وبين الغرب، وحليفها في طهران حاضر أيضا وبشدة، فقد بدأت إيران مطلع العام في تنفيذ وثيقة التعاون الشامل الاستراتيجية والممتدة لـ25 سنة، بقيمة تتجاوز 400 مليار دولار، وليس بخاف على أحد أهمية هذا التعاون بينهما في دعم قوة موقف طهران التفاوضي مع الغرب، الأمر الذي سيمكن الإيرانيين من حصد تنازلات غربية أكثر من جهة، ولن يضطرهم إلى تقديم تنازلات حقيقية من جهة أخرى، بل سيمنحهم هذا التقارب مع الصين مصادر متعددة للقوة، سياسيا واقتصاديا وربما عسكريا أيضا.
تسعى الصين وروسيا وحلفاؤهما اليوم، وبحسب ما يوضحه حدث الأولمبياد، إلى تمتين منظومة تحالف شرقي متكامل مقابل حالة القلق والتوتر التي تجتاح الغرب كاملا منذ مطلع العام، ولا يبدو أن بكين غافلة عن تعزيز مبادرة “الحزام والطريق” خاصتها، والتي تتضمن إقامة مشاريع بتريليون دولار لتحسين العلاقات التجارية الصينية عبر العالم. وقد انضمت الأرجنتين إلى هذه المبادرة من خلال توقيع اتفاقيات اقتصادية على هامش الأولمبياد. أما الرئيس الروسي بوتين فقد حرص على الحضور شخصيا رغم التوتر القائم والمتصاعد في الملف الأوكراني (وعادة ما يختار الرؤساء عدم مغادرة بلادهم في مثل هذه الحالات)، ونقلت تقارير إخبارية أنه وقع نحو 15 اتفاقية مع الصين خلال هذه الزيارة، وأعلنت الصين وروسيا عن شراكة استراتيجية عميقة لتحقيق التوازن مع ما تصفه بـ”التأثير العالمي الخبيث للولايات المتحدة”.
الصين وروسيا واضحتين وعازمتين على العمل معا، ليس ضد الولايات المتحدة فحسب، بل وأكثر من نصف المجتمع الدولي، ولقد صار واضحا توجه موسكو وبكين لبناء نظام دولي جديد قائم على تفسيراتهما الخاصة لكل القضايا
أكّد البيان المشترك الروسي الصيني أيضا أن علاقتهما في ظل الاتفاقية “اللامحدودة” قد تفوقت على أي تحالف سياسي أو عسكري في حقبة الحرب الباردة، وأن “الصداقة بين الدولتين ليس لها حدود، ولا توجد مجالات تعاون محظورة”، في إشارة واضحة إلى خطط تعاون تشمل جميع المجالات بما في ذلك الفضاء وتغير المناخ والذكاء الاصطناعي والتحكم في الإنترنت.
تبدو الصين وروسيا واضحتين وحازمتين وعازمتين على العمل معا، ليس ضد الولايات المتحدة فحسب، بل وأكثر من نصف المجتمع الدولي أيضا، ولقد صار واضحا توجه موسكو وبكين لبناء نظام دولي جديد قائم على تفسيراتهما الخاصة لكل القضايا ورؤيتهما للملفات الدولية. تحالف يثير “رهبة” لدى الحكومات الغربية، وتتجلى هذه الرهبة على سبيل المثال لا الحصر في بعض التصريحات المرتبطة بالأولمبياد، والتي أشدها غرابة دعوة رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي، الرياضيين الأميركيين إلى عدم المخاطرة بـ”إغضاب بكين” من خلال التحدث علنا عن حقوق الإنسان. وتتزايد هذه الحالة عند غير الأميركيين إذ يقول ماكنتوش روس، الأستاذ المساعد في جامعة ويسترن وأحد أكاديميي المركز الدولي للدراسات الأولمبية “نحن مرتبطون بالصين بشدة. بطريقة لم نكن مرتبطين بها بالاتحاد السوفييتي.. إن هذا يعقّد الأمور بالتأكيد عندما يحين وقت اتخاذ الحكومة قرارا بشأن مقاطعة يمكن أن تكون لها عواقب اقتصادية واسعة النطاق إذا لم يتم بشكل صحيح”.
أمام هذه المعطيات، لا بد من القول إنَّ المقاطعة الغربية لدورة الصين لا تعني الشيء الكثير، ولن تؤثر على استمرار سياسات بكين في الداخل والخارج. ومع أن رسالة الغرب قد وصلت، لكنها خجولة وضعيفة وتكاد تكون استسلامية، وستؤدي غالبا إلى تأثير معاكس لهدفها. وعلى العكس منها جاءت رسائل التحالف المقابل (روسيا والصين ومعهما إيران) واضحة صريحة ومدوية، ومن الطبيعي أن يخرج وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ليقول إن دعم الصين بشكل علني لروسيا في قضية أوكرانيا أمر “مقلق جدا”، وعليه في الوقت نفسه أن يعرف أن استمرار بلاده في سياساتها الانكفائية الحالية لن يؤدي إلا إلى تحقيق دوافع هذا القلق.
أخيرا، يستفيد الحلف المواجه لأميركا من كل ما يحدث في العالم وعلى كافة الصعد، وستصب هذه المناسبة الرياضية الصينية في مصلحة روسيا، وسيظهر ذلك في مشكلتها الحالية مع أوكرانيا وستدعم قوتها إلى حد يضع أميركا والغرب في موقف صعب ومحرج، خاصة عندما سيصّعد بوتين أكثر بقضم مساحات واسعة من غرب أوكرانيا، ليضمها إلى بلاده ويكرر مرة ثانية وأمام أنظار المجتمع الدولي -المحب للرياضة- ما فعله في القرم.
المصدر : العرب اللندنية