كريتر نت – العرب
مازال الغموض يخيم على مؤتمر “العودة إلى الجذور” الذي ستنظمه حركة “الأفروسنتريك” وما إذا كان سينعقد فعلا نهاية الشهر الحالي، وسط مخاوف مصرية من أن تثير الحركة التي تميل إلى التعصب للعرق الأسود، انقسامات عرقية داخل المجتمع.
وتصاعد الجدل بين المثقفين والمهتمين بتاريخ مصر حول الأبعاد السياسية وراء عقد مؤتمر “العودة إلى الجذور” المزمع عقده في مدينة أسوان في جنوب مصر يومي الخامس والعشرين والسادس والعشرين من فبراير الجاري، ودعت إليه حركة “الأفروسنتريك” AFROCENTRISM وهي حركة عالمية تميل نحو التعصب العرقي إلى اللون الأسود، وتتمركز في الولايات المتحدة.
وأعلن عدد من المحاورين الرئيسيين في المؤتمر إلغاء انعقاده، دون أن يكون هناك تأكيد رسمي من جانب الحكومة المصرية التي طالتها انتقادات عديدة بسبب السماح بعقده، باعتباره يدعي أن “الحضارة المصرية هي حضارة الأفارقة، وأنهم هم أصحاب الأرض، ومصر هي وطنهم الأصلي ويحق لهم العودة إلى الأصل أو إلى جذورهم”.
وبدا واضحا أن حالة التكتم التي تهيمن على قضايا عديدة في الداخل المصري انعكست سلبا على توفر المزيد من المعلومات حول المؤتمر، وما إذا كانت هناك موافقات رسمية من أجهزة الدولة على انعقاده من عدمه، كما أن المناشدات والتقارير الصحافية التي دشنها كتاب ومواقع إلكترونية لم يتم الرد عليها أو التفاعل معها رسميا.
وعبّرت الأزمة عن صحوة لدى المثقفين المصريين في وجه أزمات تتعامل معها الحكومة بصمت، وكشفت عن وجود قصور على مستوى التعامل السياسي والإعلامي مع قضية يراها كثيرون تحمل أبعادا سياسية وتشكل اختراقا للأمن القومي من زاوية عرقية.
حلمي شعراوي: “الأفروسنتريك” تستهدف عزل مصر عن محيطها العربي
وتعد “الأفروسنتريك” جماعة عرقية بدأت في الظهور منذ العشرينات من القرن الماضي، وزاد انتشارها في سبعيناته وثمانيناته، وتهدف إلى القضاء على الجنس الأبيض في أفريقيا الشمالية والجنوبية، خاصة الأمازيغ والناطقين بالعربية والأوروبيين في جنوب أفريقيا، والترويج لمقولة كون الحضارة المصرية القديمة والحضارة المغربية والقرطاجية حضارات سوداء في الأصل.
حاول القائمون على المؤتمر إضفاء طابع سياحي وثقافي وليس سياسيا على المؤتمر الذي يشرف على تنظيمه مركز “حابي” للتكامل والتعاون الاقتصادي، وشركة “أخيت تورز” المتخصصة في مجال الرحلات السياحية. والمشترك بين القائمين عليها أنهم من الأميركيين ذوي الأصول الأفريقية، وكان من المقرر أن تكون للوفد المشارك في المؤتمر جولات ميدانية في مناطق أثرية بمصر.
أثار مكان انعقاد المؤتمر بالقرب من منطقة النوبة في أسوان هواجس عديدة لدى مثقفين مصريين، اعتبروها محاولة لإثارة نعرات قومية ومحاولة للتوغل داخل إطار ما يسمى بـ”شعب النوبة” واستدراجه بغية تأليبه على باقي المواطنين المصريين.
وتروج “الأفروسنتريك” بشكل غير مباشر لقضية تاريخية وسياسية شائكة، ترى أن مصر انتزعت أملاك أهل النوبة وقامت بتهجيرهم قسرا لبناء السد العالي في جنوب البلاد، وتأخذ هذا المنطلق للتدليل على أن العرب قاموا بتزوير تاريخ أفريقيا.
وتزعم الجماعة أن علماء المصريات الحاليين يقومون بتلوين المقابر باللون الأبيض لتزوير التاريخ، وأن كسر أنوف التماثيل جاء لإخفاء ملامح الأنف الأفريقي المعقوف، في حين أنه من المعروف أن المصريين القدماء كانت لديهم عادة كسر أنوف التماثيل لاعتقادهم بأن التماثيل تتنفس، وحتى يتم حجب الحياة عنها يقومون بكسر الأنف، وكان ذلك طقسا دينيا في مصر القديمة.
وتردد الحركة بأن المصري القديم جاء من الصومال وتربط بين رحلات الملكة المصرية حتشبسوت إلى بلاد بوند، حيث قالت إنها أرض الآلهة للتأكيد على أن المصريين أولاد الآلهة، وبالتبعية يعد أصل المصري القديم من الصومال.
وقال مدير متحف الآثار بجامعة الإسكندرية حسين عبدالبصير إن القائمين على المؤتمر أعلنوا إلغاءه وروجوا لإمكانية تأجيله أو انعقاده في دولة أفريقية أخرى، هي نيجيريا، غير أن ذلك لا يكفي للتعامل مع الوضع الراهن الذي بحاجة إلى ردود رسمية لتوضيح الحقائق وتفنيد الأكاذيب التي تروج لها، وأن يكون ذلك بمشاركة أساتذة علم المصريات الأجانب لوقف تمدد أفكار قد يكون لها تأثير سلبي على الأمد البعيد.
وأوضح في تصريح لـ”العرب” أن إثارة النعرات العنصرية في هذا التوقيت ترجع إلى أسباب تتعلق على نحو أكثر بوضعية تلك الجماعات في أوروبا والولايات المتحدة، لما واجهته من اضطهاد هناك، وتحاول كنوع من إثبات الذات والتفوق الحضاري الترويج إلى أن أصل الحضارة المصرية أفريقي، وأنهم يسعون للعودة إلى وطنهم الأصلي.
“الأفروسنتريك” تروج بشكل غير مباشر لقضية تاريخية شائكة ترى بأن مصر انتزعت أملاك أهل النوبة وقامت بتهجيرهم قسريا
وتتمثل خطورة انعقاد المؤتمر في إمكانية خروجه بتوصيات يجري البناء على أساسها مستقبلا أو أن الحركة تطالب مصر بالقبول بتوصيات، بينها استرداد أرضهم أو إعادتهم إلى أرضهم طالما أنه جرى عقد المؤتمر في أسوان، وتترتب على ذلك مشكلة، ما دفع مثقفين إلى التطرق إلى الأمر وتوصيل شكاوى للحكومة ورئاسة الجمهورية المصرية.
وبعد إثارة القضية في مصر أعلن أنطوني برودر، أحد المحاورين بالمؤتمر ومؤرخ ثقافي مهتم بالقضايا المتعلقة بالتاريخ والثقافة الأفريقية والأفرو – أميركية في الولايات المتحدة وأفريقيا، عبر تغريدة على حسابه على تويتر إلغاء المؤتمر .
وكان من المقرر أن يضم المؤتمر 12 عضوا من المحاورين الأفارقة، بينهم برودر، الذي لديه مقطع فيديو جرى تداوله على مواقع التواصل الاجتماعي، يظهره وهو يقف أمام الأهرامات بمصر ويشرح إلى فوج سياحي قائلا “إن الرجال الأفارقة السود هم فقط من بنوا الأهرامات، وأن الأفارقة هم أصحاب الحضارة ونحن نتخذ شعار الرجال السود يعرفون نفسهم، ونحن في رحلة إلى مصر لإيقاظ الروح المقدسة وتمرير الفكرة إلى الأجيال القادمة”.
أكد مدير مركز البحوث الأفريقية والعربية بالقاهرة حلمي شعرواي أن “الأفروسنتريك” تستهدف عزل مصر عن محيطها العربي والأفريقي عبر تزوير التاريخ، وأن طرحها على سبيل المثال لقضية النوبة باعتبارها قومية لديها مظلومية تعمل على ترديدها وليست حضارة حكمت مصر مثل قوميات عديدة أخرى، يكشف الأهداف المشبوهة وراء المؤتمر، وهو ما أثار الريبة في صفوف العديد من المثقفين.
وأضاف في تصريح لـ”العرب” أن فكرة استغلال العولمة لتشويه البشر ومصائرهم الإنسانية والتاريخية تؤكد أن هناك جهات تحرك مثل هذه الحركات لتحقيق أهداف سياسية، وتهدف إلى إلحاق حالة من اليأس الإنساني لدى المواطنين الذين يفتخرون بحضارتهم، وأن المنطقة العربية والدول الأفريقية عرضتان للكثير من المؤامرات التي تذوب في مفاهيم العولمة.
وأكد حلمي شعراوي، الذي كان أول من قاد الحملة ضد المؤتمر، أن “المبالغة في المؤامرة ليست مطلوبة في التعامل مع مثل هذه القضايا، لكن كثرة القضايا والأزمات التي تتعرض لها دول حوض النيل وتزايد صراعات المياه وانعكاساتها على مستوى الصراعات الدولية، تجعل هناك حاجة إلى الحذر من ترديد بعض الدعاوى التي تهدف إلى الوقيعة بين الشعوب وليس التعايش الإنساني”.
وتنبع الخطورة من وجهة نظر بعض المثقفين المصريين من أن يصبح لهذه الأحداث انتشار واسع بين الجاليات الأفريقية في أوروبا، وبين الأفارقة جنوب الصحراء وعند الأقليات في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، وما يروج له قد يجري الاقتناع به وستكون الجهات الرسمية مطالبة بجهود مضاعفة للتعامل مع الارتدادات الثقافية والفكرية.
وأشارت الخبيرة بمركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية أماني الطويل لـ”العرب” إلى أن “الأفروسنتريك” وغيرها من الحركات التي تدعم التحيز للمواطنين على أساس اللون أو العرق، تمثل خطورة داهمة على إمكانية غرس التقسيم العرقي في مجتمعات مستقرة وتتعايش بين أعراق مختلفة.
ويعد ذلك جزءا من بقايا الممارسات الاستعمارية التي تعددت أشكالها في النصف الثاني من القرن العشرين، بهدف تقسيم القارة الأفريقية إلى شمال وجنوب وشرق وغرب.
ويعتقد بعض السياسيين أن التعامل مع مثل هذه الدعوات لابد أن يكون من خلال منظور التعاون مع الجهات الداعمة لهذه الحركات، وتعمل مصر للحفاظ على مصالحها جيدا وتقنع تلك الأطراف بخطورة ما تدفع إليه مثل هذه الجماعات، وتشكل تكتلات إقليمية قادرة على صد أي محاولات تستهدف اختراقها، بعيدا عن أساليب مدح الذات ونشر التفاؤل والتغاضي عن المشكلات الحقيقية.