د. ماجد السامرائي
لم يكترث العراقيون بحمى دوران الأحزاب بذات الهزال لإنتاج سلطة تداول نفعي طائفي صممتها لهم العقلية اليمينية الأميركية، وزادتها خطورة عملية المزج وفق نظرية الولي الفقيه الإيراني الخميني ووريثه خامنئي (الدين والمذهب) كأداة للحصول على مستويات عالية من المصالح لم تصل إليها دول الاستعمار في أعلى مراحل إمبراطورياتها البائدة.
أصبح شعب العراق الضحية الأولى لهذا المزج الخبيث. وتبقى المسؤولية السياسية والأخلاقية على الولايات المتحدة، خصوصاً في ظل إدارتي باراك أوباما وجو بايدن، في إبقاء ودعم الجريمة المفتوحة التي تضيف كلّ يوم قوائم من الآلام والمآسي إلى شعب كل ما يطلبه حياة تتوفر فيها الحدود الدنيا من العيش الكريم.
قد يلوم البعض شعب العراق بأنه منتج أبوي لأحزاب الفساد، وضحية أدمنت على جلد السجّان. لكن، في هذا الحكم ظلمُ قاس ينظر بعين واحدة تضيف إلى القتلة والسرّاق أسباباً للإيغال والتمادي، بعد أن علّمهم المعلم الكبير عدم الاهتمام بضجيج صرخات الأطفال اليتامى وأنين الأرامل، لأنها صرخات ذاهبين إلى الموت لا خشية منهم.
خطورة تعميم حالة اليأس والإحباط وتعميقها في الحياة العراقية أنها أصبحت ساتراً يحمي المجرمين، وأداة لإبقاء شعب العراق في حفرة اليأس التي تحولت في النهاية إلى مقبرة تضاف إلى سجلات الهزائم التاريخية التي ستقرأها الأجيال المقبلة بخزي وعدم احترام. لقد تدّرب هؤلاء الوكلاء والعملاء للأجنبي على تكريس اليأس والإحباط بوسائل كثيرة أبرزها وأخطرها حالياً استثمار وسائل الإعلام المرئية الحديثة التي عطّلت المؤثرات التاريخية للكلمة المقروءة والمسموعة على الفضائيات ومنصات التواصل الاجتماعي.
أدوات هذا الخطاب متعددة المصادر والأساليب. فأخطر أنماط الخطابات الإعلامية المُكرّسة لحالة اليأس الشعبي ليست تلك الصادرة عن موظفين لدى أحزاب الفشل والفساد، المتدرّبين على الأداء الإعلامي من الدرجة العاشرة، إنما في الأداء المؤذي لبعض الحاملين للعناوين الأكاديمية المهنيين والسياسيين، وقسم منهم ينتمي إلى قوى يفترض بها أن تكون فاتحة عهد تنويري جديد في الوضع العراقي.
هؤلاء لا يكتفون بتغييب المسؤولية الوطنية والمطالبة بالمحاسبة الجمعية الشعبية بحق أصحاب المناصب الأولى في السلطات الرئاسية. لكنهم، مثلاً، يدافعون عن رئيس منتهية ولايته، ويبشرون بأنه البطل الأسطوري لدولة العراق الأفلاطونية المقبلة، في حين أنه وغيره من رؤساء السلطات الأولى يشكلون غطاء مُرتباً ومقنناً للجريمة الكبرى بحق شعب العراق.
ألا يستحق هذا الشعب المظلوم، بشيعته وسنته ومسيحييه، وبكرده وعربه وتركمانييه كلمة صادقة تداوي جرحه، قبل أن تساعده ببرنامج وطني على الخروج من محنة اليأس رغم قسوتها؟ لأن الدواء الحقيقي هو في أن يأخذ الشباب حقوقهم في العمل والإنتاج، بعد أن يزيحوا من دربهم المتسببين الأوائل في قتلهم بالمخدرات والتمترس خلف القيم العشائرية البالية الحامية لمافيا القتل الميليشياوي، في جنوب العراق مثلاً. أليست هذه مظاهر لتكريس النظام الطائفي المفضوح القائم؟
ألم يقدم هذا الشعب المقموع الجائع، رغم عمق الكارثة، موقفا تاريخيا بمقاطعته انتخابات العاشر من أكتوبر 2021 بنسبة تصل إلى 80 في المئة، وفي عدم التصويت أيضا للمتورطين في الفشل والسرقة والقتل؟
ألم يحقق هذا الشعب اليائس المتغيّر المتوقع في ديكور بنيان العملية السياسية وإعادة بناء بعض أركانها الساقطة، رغم المخاوف من عدم صمود أصحاب هذه المهمة العسيرة بوجه المتعلقين بقشة في بحر الهزيمة الذي سيبلعهم؟
ألا يستحق هذا الشعب الثناء لأنه أنتج شباباً نفذوا ثورة تشكل علامة وعي ثوري جديد في العراق اكتشف الطغاة مخاطرها على وجودهم السلطوي فقمعوها بقتل أبطالها، شباباً وشابات حلموا بوطن بلا طائفية وتبعية، وعززوا عروبة شيعة العراق وأحيوها، لهذا اتهموهم زوراً وبهتاناً بالعمالة للسفارات؟
لكن، الواقع يقول إن مرجعيات تلك السفارات من الدول، وأولها الولايات المتحدة وأوروبا ومنظماتها المنتشرة في العالم، صمتت إزاء عملية التغيير الثوري الأصيل لثورة أكتوبر ولم تقل كلمة حق في صالحها. ويتذكر العالم كيف دعمت تلك الدول ما سميّ بثورة الربيع العربي عامي 2011 و2012 المنتقاة مواقعها الجغرافية في الغرب العربي – الأفريقي، دون العراق وسوريا ولبنان، لارتباطها بمصالح تمرّ نتائجها هذه الأيام بولادة عسيرة.
أليس من العيب على مثقفي العراق، وبعض الكَتَبة والإعلاميين، أن يتضامنوا مع حملة تجاهل حقوق شعب العراق، وعدم كشف فصول الجريمة الكبرى المستمرة ضدّه في يومياتهم الصحافية والإعلامية بما يلبي الحد الأدنى من مهنية الصحافة والإعلام الاستقصائية، وتقف بذات الموقف المؤذي للعراقيين غالبية الصحف والقنوات الإعلامية العربية الخليجية، خاصة المنفذة لأجندات حكوماتها، في عدم مساندة شعب العراق مقابل دعمها للطبقة السياسية الفاسدة في البلد تماشياً مع مصالح إيران والولايات المتحدة وغيرهما؟
ألا يغار بعض المحللين والكتاب الصحافيين، خاصة من وضعوا أنفسهم في الخانة الوطنية، من كتاب وصحافيين بارزين في جرائد عالمية كبرى مثل صحيفة نيويورك تايمز الأميركية وفي معاهد بحثية أميركية، تحولوا إلى مراجع لتقصي الحقائق كجزء من الإخلاص لمهنتهم وطموحهم في أن يصبحوا مدونين وشهداء على التاريخ؟
تدليلا على ذلك نذكر الصحافي الأميركي روبرت وورث، وهو من أهم كتاب التقارير الاستقصائية الميدانية في صحيفة نيويورك تايمز، نشر عام 2020 تقريراً ميدانياً مهماً حول العراق شكل وثيقة من أهم الوثائق الصحافية، لم يهتم به السياسيون والكتاب في العراق، خاصة أولئك الذين يحسبون أنفسهم على المعسكر الوطني، بينما قرأه بعض المسؤولين وحفظوه في أدراج مكاتبهم.
نقاط سريعة قدمها وورث في تقريره تعوّض عن العشرات من المقالات، في مقدمتها وصف السياسة في العراق بأنها حرب عصابات.
وكانت تفصيلات المال العراقي المسروق التي عرضها مذهلة، لا تقترب منها ادعاءات رئيس الجمهورية المنتهية ولايته، والمفتون بخطاباته بعض الكتاب العراقيين، وبدعوته إلى استرداد الأموال العراقية في الخارج ليتجنب مس “حراميي” الداخل.
ومن التفصيلات التي ذكرها التقرير:
– سياسيون عراقيون وضعوا قرابة 150 مليار دولار في بنوك الخارج، ويمكن أن تصل هذه المبالغ إلى 300 مليار دولار.
– الفساد هو السكة الثابتة في السياسة العراقية، مجرد لمسه قد يقتلك وعائلتك.
– عام 2017 اشترت بغداد طماطم من إيران بقيمة 1.66 مليار دولار، أكثر من العام الذي سبقه بـ1000 مرة، في عملية غسيل أموال بدت واضحة.
– أحد البنوك الأهلية سحب 4 مليارات دولار من البنك المركزي وبعد التحقيق تبين أن البنك لا يحتوي سوى على غرفة واحدة وكومبيوتر.
– الحشد الشعبي سجل نحو 70 ألف منتسب فضائي في بطاقة الكي كارد.
– البنك المركزي العراقي يجري عمليات مالية ضخمة لصالح منظمات إرهابية، خصوصا قضية مزاد الدولار الذي غذى الحرب السورية وأنعش الإرهاب فيها.
– الشركات الوهمية في العراق اشترت عقارات في لندن بأموال حصلت عليها من خلال البنك المركزي العراقي.
– الولايات المتحدة متورطة بشدة في كل ما يحصل، ليس فقط لأن غزواتها دمرت البلاد وساعدت على تدمير الاقتصاد، بل لأنها المسؤولة عن صرف المليارات للعراق، وهي تعلم أنها ذاهبة إلى الميليشيات.
– تظاهرات أكتوبر 2019 وضعت الميليشيات في موضع صد لأول مرة.
– العراق هو الحكاية التحذيرية لكل دول العالم، والفرد العراقي لا يرى ضوءاً يلوح في الأفق. العراق أرض خصبة للفساد، والميليشيات كونت طبقة سياسية عراقية جديدة أخلاقياتها الوحيدة هي تحقيق الثراء الفردي.
قد نجد من يقول هذه ليست حقائق غير معروفة يتداولها المواطن العراقي. هذا صحيح، لكن أن تُعرض على الرأي العام العراقي والعربي أمر مهم لتشكل قاعدة رأي ميدانية يستند عليها المؤمنون الصادقون المناضلون من أجل نيل هذا الشعب لحريته من الطغاة السراق وتقضي على مشروع التيئيس اللعين.
نقلاً عن العرب