القاهرة – هشام النجار
بثت مؤسسة السحاب التابعة لتنظيم القاعدة رسالة مرئية لزعيمه أيمن الظواهري بمناسبة الذكرى العشرين لهجمات الحادي عشر من سبتمبر، وكشف المحتوى بالنظر إلى ما سبقه من إصدارات ومتغيرات الوضع الراهن في أفغانستان أن التنظيم راغب في تعديل استراتيجيته ليتواءم معها ويتأهل للانتفاع من ورائها.
ويعكس الإصدار المرئي الأخير لتنظيم القاعدة أنه يريد إثبات أن زعيمه أيمن الظواهري لا يزال على قيد الحياة، لينفي شائعات دارت حول موته راجت العام الماضي، والحرص على إقناع طالبان بأن تنظيم القاعدة تغير ولن يشكل تهديدا على مستقبل الحركة في الحكم عبر التأكيد على تراجع التنظيم عن أيديولوجيا العنف المعولم وتحول اهتماماته باتجاه قضايا الشعوب الإسلامية والأقليات المسلمة المضطهدة حول العالم.
ويدرك زعيم القاعدة أن ما يهم طالبان الآن في المقام الأول تثبيت قدمها في السلطة والحصول على اعتراف دولي بشرعيتها وجذب الاستثمارات والمساعدات الاقتصادية من الخارج لتمكينها من الإقلاع بالدولة والخروج من سيناريوهات الفوضى والصراعات الاجتماعية والحرب الأهلية، ما يعني احتمال تدهور العلاقة مع التنظيم إذا لم يُجرِ مراجعات على مناهجه وتوجهاته وخطابه القديم الذي كان سببًا في إنهاء حكم إمارة طالبان منذ نحو عشرين عاما.
وحاول أيمن الظواهري عبر ابتعاده المتعمد عن نظرية استهداف العدو البعيد والتركيز على أوضاع وقضايا محلية وتسليط الأضواء على العدو القريب ممثلًا في الأنظمة الإسلامية والعربية المستبدة التي لا تحكم بالشريعة -وفق وصفه- إنقاذ علاقة تنظيمه مع طالبان متداركًا الأثر السلبي الذي تركه بيان القاعدة المركزي الأخير الصادر في الأول من سبتمبر الماضي والخاص بتهنئة طالبان بالنصر الذي وردت به عبارات قاسية في وصف الولايات المتحدة وهزيمتها المذلة، كذلك وقع الحفاوة التي قابلت بها بعض أفرع القاعدة عقب الانسحاب الأميركي ودخول طالبان كابول.
بعث الظواهري من بين سطور كلمته، والتي يبدو أنه جرى تسجيلها في وقت سابق لدخول طالبان كابول الشهر الماضي، رسائل لمن يهمهم الأمر في أفغانستان وخارجها فحواها أن تنظيمه لم يعد كما كان في السابق كحركة جهاد عالمي تستهدف المصالح الغربية والأميركية، وأنه توقف عن الصراع الساخن مع الغرب ويُلزم نفسه بما التزمت به طالبان بشأن عدم جعل الساحة الأفغانية مركزًا للتدريب والتخطيط لتنفيذ عمليات ضد قوى خارجية بعيدة أو قريبة.
ميت أم حي؟
الظواهري يخشى أن تتخلى عنه طالبان وتراجع مسألة حمايته إذا عاند وظل على نفس منهجه وخطابه
واضح أن الظواهري الذي يعتمد على هيئة إعلامية محدودة المستوى تعاني من البطء الشديد في التفاعل مع الأحداث نتيجة استهداف أهم رموزها وكوادرها، في مقدمتهم حسام عبدالرؤوف ذراع الظواهري الأيمن والمسؤول الإعلامي بالتنظيم ونتيجة التضييق الأمني، لم يعد يهمه في المقام الأول إثبات حياته من عدمها بقدر توخيه تأمين مستقبله وانتهاز الفرص لإظهار أن تنظيمه نفسه لا يزال يتنفس وعلى قيد الحياة ولم ينحدر بعد إلى هاوية التفكك والانهيار.
يدحض الخروج الآن إلى العلن بالفعل شائعات وفاته التي تم إطلاقها من خلال أحد الصحافيين المتخصصين في شؤون الإرهاب بناءً على معلومة استقاها من بعض قادة تنظيم حراس الدين المرتبط بالقاعدة في سوريا في نوفمبر 2020، فيمَا خرج الظواهري في فيديوهات بعد هذا التاريخ منوهًا بأحداث وقعت بعده.
تطرق زعيم القاعدة في الإصدار المرئي الأخير إلى وقائع مثل هجوم تل السمن في يناير 2021 ضد القوات الروسية في الرقة والانسحاب الأميركي من أفغانستان وإن كان لم يصل إلى مستوى مواكبة دخول طالبان كابول وهيمنتها على الحكم في أفغانستان ما يعني أنه حي لكنه يعاني نتيجة ضعف أداء منظومته الإعلامية وعزلته الإجبارية عن الواقع من عدم المقدرة على مواكبة الأحداث والعجز عن التفاعل اللحظي مع التطورات الحالية المتسارعة.
ورغم أن فحوى خطابات الظواهري عادة تكون بعيدة عن الأحداث الجارية وغير مواكبة للحدث الآني، إلا أنها من خلال التركيز على قضايا فكرية وفلسفية مثل “الإلحاد” و”اللاهوت المسيحي” فضلًا عن تناول قضايا سياسية بعيدة عن قضية القاعدة المركزية الأم وهي العداء للولايات المتحدة والتحريض على تقويض هيمنتها وضرب مصالحها ومواجهة نفوذها، تحمل العديد من الدلالات بشأن التحولات التي يجريها الظواهري على منهجية القاعدة واستراتيجيتها بما يتواءم مع مصالح طالبان وحرصها على تأمين سلطتها الجديدة.
صورة
دلالات سياسية متباينة
لم يذكر أيمن الظواهري في كلمته الأخيرة اسم الولايات المتحدة ولم يتطرق إلى أحداث الحادي عشر من سبتمبر إلا على سبيل التأريخ كما لو كان باحثًا سياسيًا أو مراقبًا للأحداث وليس صانعًا لها، وتحدث في سياق سرد تاريخي لما تعرضت له الأمة الإسلامية من تحديات آتية من الخارج قائلًا “وها هي الولايات المتحدة تخرج من أفغانستان منكسرة بعد حرب عشرين سنة”.
وبقطع النظر عن اللهجة المخففة التي وصف بها الظواهري الخروج الأميركي من أفغانستان التي لطف بها الأجواء بعد العبارات القاسية التي استخدمها بيان تنظيم القاعدة المركزي السابق في تهنئة طالبان بالنصر وبيانات أفرع التنظيم وتصريحات قادته وعناصره، فسياق الطرح الذي يلح عليه زعيم القاعدة يؤشر إلى تحول يبدو أنه لا رجعة فيه عن توجه استهداف العدو البعيد أي الولايات المتحدة والغرب، والانشغال بما تنشغل به طالبان بشأن تكريس هيمنتها وإنهاء أي حركات تمرد ضدها من خصوم ومنافسي الداخل.
ويتسق التحول الواضح في استراتيجية القاعدة ليس فقط مع ما تريده طالبان من التنظيم حتى لا تتجاوز الأخير الأحداث وتضطر الحركة الأفغانية لخيارات أخرى لحماية مصالحها وإمارتها الجديدة، علاوة على أنه لا يتعارض مع مساعي وخطط سابقة لتعديل منهجية التنظيم على ضوء ما جرى بعد تفجيرات سبتمبر 2001.
وكانت وثائق “آبوت آباد” التي عثرت عليها القوات الأميركية التي قتلت بن لادن في مخبئه بباكستان أظهرت إرادة مشتركة بين الظواهري وأسامة بن لادن تتعلق بالحاجة إلى إعادة تسمية تنظيم القاعدة بما يشمل تعديل منهجيته، حيث صار الاسم والمنهج مرادفين لأعمال عنف مروعة ضد المسلمين والعرب، فضلًا عن نفور غالبية العرب والمسلمين من سيرة التنظيم الذي تسبب نتيجة مغامراته غير المحسوبة في كوارث ومآس مؤلمة لبلدان وشعوب إسلامية،علاوة على المعاناة التي لقيها مسلمون يقيمون في الغرب.
لم يكن أمام الرجل معتل الصحة والمطلوب أمنيًا بمكافأة هي الأعلى بين إرهابيي العالم (25 مليون دولار أميركي) إلا أن يبدو متوافقًا مع تلك القناعات التي غزت أفرع تنظيمه
وتخدم المرونة واللهجة المخففة التي استخدمها الظواهري في حديثه الأخير مصالح طالبان التي تريد من تنظيم القاعدة في المرحلة المقبلة أن يكون مجرد أداة وظيفية في الداخل الأفغاني، ويبدو للقوى الخارجية هشًا لا يفرق إذا بقي في أفغانستان أو رحل عنها ولا يستدعي وجوده أي قلق منه.
كما أنها تخدم الظواهري الذي بحث طوال الأعوام الماضية عن وسيلة يستطيع بها فك العزلة التي يعاني منها بسبب الانقسام داخل التنظيم وتغول الأفرع، كما في اليمن وسوريا والصومال، على المركز وبروز قيادات تلك الأفرع ومنافستهم لسلطة الظواهري نفسه، وغالبيتهم باتوا معتنقين لمنهجية العدو القريب ومتخلين عن فكرة محاربة العدو البعيد ويركزون على الأنظمة المحلية القريبة في بلادهم.
ولم يكن أمام الرجل معتل الصحة والمطلوب أمنيًا بمكافأة هي الأعلى بين إرهابيي العالم (25 مليون دولار أميركي) إلا أن يبدو متوافقًا مع تلك القناعات التي غزت أفرع تنظيمه حتى يستطيع السيطرة على الانقسامات التي تضاعفت في الفترة الأخيرة ويستعيد بعض مكانته داخل التنظيم.
أضف إلى ذلك محاولة إنقاذ التحالف بين القاعدة وطالبان خاصة أن الأخيرة كانت واضحة عبر تصريحات قادتها الرافضين لوجود بيعة بين الطرفين والتي وضح منها أن طالبان وضعت القاعدة بين خيارين: إما تعديل الوجهة وضبط البوصلة وتغيير الاستراتيجية أو كشف الغطاء السياسي والأمني عنه.
تحول تنظيم القاعدة الآن تحت وقع الضغوط عليه من كل اتجاه من منهجية بسيطة قائمة على أيديولوجيا المقاومة الجهادية التي انتشرت بين المقاتلين من خريجي الحرب الأفغانية، قادتهم في البداية شبكة مركزية ثم تحولت إلى لامركزية توجه عقائديين إلى ضرب الولايات المتحدة والغرب بناءً على فتوى تبيح قتال اليهود والنصارى أينما كانوا، إلى لاعب براغماتي لا يطلق الفتاوى بل الرسائل السياسية التي تتلخص في أنه لم يعد يمثل خطرًا على العالم كما كان في السابق.
وصاحبت رسائل أيمن الظواهري غير المباشرة لطالبان التي لم يذكرها بالاسم رسائل أكثر وضوحًا للولايات المتحدة والمجتمع الدولي، حيث يدرك أنه لا مفر من التسليم بالأمر الواقع لأن الانسحاب الأميركي وسيطرة طالبان لا يعنيان عودته إلى سيرته الأولى، فواشنطن التي حصدت كبار قيادات التنظيم عبر الطائرات بدون طيار لن تقف مكتوفة الأيدي وهي ترى التنظيم يعيد بناء نفسه على ذات الخطط والبرامج القديمة مهددًا مصالحها وأمنها القومي بعد كل هذه الخسائر التي تكبدتها على مدار عقدين.
ما أظهره الظواهري من خطاب مرن وبراغماتية متخليًا عن أيديولوجية تنظيمه المستوحاة من فكر زعيمه ومؤسسه أسامة بن لادن والقائمة على تنفيذ هجمات خارجية ضد القوى الغربية، ومن انفتاح مع كيانات أو أشخاص يوفرون له ولقادة طالبان العمل مع الغرب، يشي بتحول مفصلي كبير مؤسس على إرادة التطور واللحاق بركب طالبان للتحول إلى حركة جماهيرية أكثر شعبية وانتشارًا عما كان عليه.
الأمير المُسَرْدَب
يجد أيمن الظواهري أن الفرصة سانحة الآن ليس للتمدد في الخارج إنما للسيطرة على الأرض والتمتع بالأمان المفقود تحت سلطة طالبان، مستفيدًا من تجارب أفرع القاعدة في كل من سوريا ومالي واليمن، والتي سبق وأثبتت للآخرين أنها قادرة على التحلي بالواقعية وتدشين نماذج محلية.
وتشفع لمقاربة الظواهري أن مثل هذا النهج قد سبقت به أفرع موالية للقاعدة نزعت عنها الاسم والمنهجية معًا ووفرت المناخ لتجارب حكم محلي مستمر إلى الآن في الشمال السوري، رغم كل الانتقادات والتحديات، مقابل انهيار دولة داعش التي تهاوت عندما توسع التنظيم بلا ضابط أوحساب.
بات الظواهري أخيرًا على قناعة كاملة بأنه يجب أن يُبدي تطورًا ويلزمه أن يغير من جلده، فحركة طالبان التي استضافت القيادة العليا للقاعدة وحمتها رغم أنها لم تتورط في هجمات الحادي عشر من سبتمبر ليست على استعداد لتكرار المشهد مجددًا لأجل عيون الظواهري، ولن يكون الأخير هو أسامة بن لادن الثاني الذي ترفض طالبان تسليمه مضحية بسلطتها.
لذلك بدا الظواهري في ظهوره الأخير في صورة المستسلم لمصيره، وبعد أن كان هاجسه في السابق أن تصطاده طائرة أميركية بدون طيار كالتي اصطادت كبار رؤوس القاعدة إلى درجة اختبائه المبالغ فيه وتسميته “الأمير المُسَرْدَب” صار هاجسه أن تتخلى عنه طالبان وتراجع مسألة حمايته إذا عاند وظل على نفس منهجه وخطابه.
العرب اللندنية