كتب : محمد علي محسن
الإصطفاء وأي إصطفاء يقوم على أساس العرق أو المذهب أو المعتقد أو اللغة أو المكان ؛ هو انتهاك بشري فظ لعدالة السماء والأرض .
فلا فرق هنا بين يهودي ” اشكنازي ” يدَّعي بأن الله فضّله على العالمين ، وبين مسيحي بروستانتي مغالٍ يعتقد أن الله أصطفاه لنصرة المسيح وأنه مكلفًا ودون سواه بتطهير الأرض من الحياة تمهيدًا لتلك العودة الثانية المزعومة .
كما لا فرق هنا بين مسلم شيعي أو سني يعتقد أنه الله مايزه وفضله على سائر الإجناس ، لا لشيء غير رسوخ فكرة الانتماء للمذهب الفقهي الصحيح ، وغير المغالاة في قراءة وتفسير المرويات المتواترة .
هذا إذا لم نقل أن القرآن تم تأويل بعض من نصوصه وفق مقتضيات حقب سياسية تاريخية ، بدليل توقف الاجتهاد عند مسائل مثل الوضوء والحدود والعبادات بينما المكتبة الإسلامية تفتقر كثيرًا لفقه المعاملات والعدل والحكم .
وعلى فرضية أن هناك تمايزًا بين ملتزم ومفرِّط أو حتى كافر فهذه المفاضلة إيمانية وغايتها غيبية ورجاؤها القبول من مالك يوم الدين ، فلا تعني أنها أفضلية سلالية أو مذهبية ويتم منحها لقوم أو جماعة أو جنس دون سواهم من الخلق .
ويخطىء من يظن أن الإصطفاء مقتصرًا على دين أو طائفة بعينها ، فما من دين سماوي أو وثني إلَّا وهنالك ثمة طائفة بالغت في اعتقادها كأقلية مصطفاة من دون خلق الله أجمعين .
ولدينا في الاسلام فرقًا وجماعات لا تختلف في اعتقادها عن الفرق والجماعات اليهودية أو المسيحية .
فلدى الشيعة فرقًا تتناحر منذ القرن الأول الهجري في أيهما الإمام الأفضل والورع والتقي وهل الإمام الغائب هو محمد بن اسماعيل أم محمد العسكري وأيهما الأحق بالولاية الإمام السابع وفق اعتقاد الإسماعيلية والسبعية الواقفية أم هو الإمام الثاني عشر وفق اعتقاد أغلب الشيعة الأثني عشرية ؟؟ .
وكم عدد الأئمة المعصومين وكم عدد الكتب والصحائف المنزلة على الإمام علي وأبنته فاطمة الزهراء ؟ ..
وفي المقابل لدينا فرقًا وجماعات في مذهب أهل السُنَّة والجماعة ، وكل منها تدَّعي أنها المتفردة بحمل رأية التوحيد ، كما وهنالك من الفرق ممن تجاهر باعتبارها الفرقة الناجية الوحيدة من لظى الجحيم ، وعداها أكثر من سبعين فرقة في النار ..
هذا الإصطفاء لا يقتصر على ما هو ديني مذهبي وإنما يشمل الاصطفاء الأيديولوجي والأثني والثقافي والحضاري ، وفي المحصلة جميعها تتشارك في تدمير وتخريب سبل الحياة الحرة الكريمة ، وفي إذكاء الصراعات العنيفة وتمجيدها .
أما لماذا تركيزنا منصبًا في الإصطفاء الديني أو المذهبي ؛ فلأن المأساة هنا تكون عظيمة ووخيمة بسبب ان الاصطفاء هنا مرجعه ديني إلهي كهنوتي ، فالمهج المزهقة تصير في هذه الحالة شهادة في سبيل الله وتمجيدًا لسمو رسالته ، وطاعة تستوجب نعيم الفردوس .
تقاتل المسيحيين مدة نيفت القرنين ولحد أن الدم والموت وصل لكل أصقاع أوروبا ، وحصدت هذه الحروب ملايين الأنفس ، وما من سبب هنا غير الإصطفاء الرافض للآخر وغير الإنقياد الأعمى ، فإي جدل أو نقاش في هذه الافضلية يعد طعنًا للعقيدة وجحودًا بما هو مقدس .
ولدينا في التاريخ الاسلامي مآسي مروعة ، فيكفي القول إن حروب لأجل الخلافة أخذت الملايين ، ففي معارك الإمام علي ومعاوية ومن بعدهما يزيد والحسن والحسين اخذت قرابة ربع مليون انسان اكثر من نصفهم صحابة ميامين بررة فاضت أرواحهم تحت ظلال سيوف الإصطفاء للحق .
ولا أعتقد أن اليمنيين نسوا آثام الإمام حمزة الجزَّار الذي قتل أكثر من مئة الف يمني من طائفة الزيدية المطرفية ، ومع أنهم متشيعون مثله ، لكن ذنبهم أنهم خالفونه اعتقاده بالإصطفاء السلالي الوراثي ، إذ ظل اعتقادهم بوجوب شروط الإمامة رافضين مبدأ الولاية بالبطنين .
وذهب البعض إلى تكفير وتفسيق كل من لا يؤمن بالإصطفاء السلالي أو المذهبي ، بإعتباره من المسلمات بينما هو نتاج تاريخ طويل من الصراع على السلطة والإستئثار بمقدراتها وامتيازاتها .
الخلاصة هي أن أي إصطفاء سلالي أثني أو مذهبي أو أيديولوجي فكري أو ثقافي اجتماعي هو في الحقيقة إنتهاك فظيع لفطرة الخلق والحياة والوجود .
فلا الله ، ولا رسوله ، ولا أي دين ايماني سماوي أو وضعي يقر بهذا التمايز العنصري الذي هو صناعة بشرية محضة . كما ولا يوجد نصًا مقدسًا يمكنه توريث الحكم أو الدولة أو الإصطفاء ، فكل هذه المعتقدات الخاطئة هي مزاعم باطلة واخترعها فقهاء السلاطين في آماد مختلفة ، وغايتها في كل زمان ومكان السلطة والهيمنة والنفوذ ولا سواهم .