كتب : فاروق يوسف
سيشعر الكثيرون بالخذلان. ما من شيء قابل للتعويض إذا تعلق الأمر بانهيار القيم الرمزية. وفي حالة بغداد، ذلك الفردوس النائم، المدينة الهاربة بنفائسها الروحية بعد كل هذه الوضاعة التي هي صفة الابتذال الذي مارسه المحتل الأميركي، يمكننا القول إنها استسلمت لقيامتها. لقد حلت القيامة وها هي عاصمة الخلافة العباسية تعيش الساعات الأخيرة منها. ما الذي تبقّى لكي تفيض الأرض كما لو أنها بركان بكل لغات اليأس والألم والشقاء وما من شفاعة وصولا إلى الموت؟ لا شيء يمكن توقع حدوثه لم يقع.
خانت بغداد جمالها وسارت في جنازتها مثل صبي ضائع. فهي وإن كانت ليست حجارتها، فإن كل حجر من أحجارها صار ينعى أخاه الحجر في ظل خراب لم تشهده مدينة من قبل، ليس على مستوى ما يُرى منه فحسب بل وأيضا على مستوى ما لا يُرى. فحين تمشي المدينة في جنازتها، فإن حشدا من الأيائل يرافقها بدموع لا تُسقطها إلا غيوم أندلسية. أما وقد انتهت بغداد من حفلة بكائها بعد أن مرّت بها كل العصور وتركت على وجهها أثرا من عواصفها، فإن ما ينتظرها لن يكون هو الأسوأ. لقد اختفت الجنّة ولم تعد الزهرة تقنع أحدا بزوالها. تلك زهرة للضحك ما دام البكاء قد محا بغيومه كل أثر لعاصمة الرشيد التي اختفت وراء حديقة ضبابها.
سيكون مريحا لأبي جعفر المنصور أن يغلق عينيه المفتوحتين منذ قرون وينام. فلا شيء يستحق أن يُرى. لا صوت يليق به أن يسمعه. لا رائحة تحلق به لو شمّها. لم يعد هناك أثر من مدينته وهي قلادة مجده المدورة. لقية سلامه التي كان يلتمس الحب والحنان والشهوة والترف بين دروبها. موقد ناره وطريدة شهوته وجناحاه حين الحلم. فهو ليس مَن بنى بغداد بل بغداد هي التي استخرجته كما لو أنه لم يكن قبلها. لقد نعم زمنا طويلا في الرقود تحت وسادتها ولطالما مسّد خصائل شعرها. كم كان زمنا رقيقا وعذبا ذلك الزمن الذي كان المنصور يسمع فيه ضحكات الأطفال وهي ترشقه بعطرها. ولكن الأطفال غابوا بل لم يعد هناك أطفال. إنه زمن الخونة الذين صارت لغاتهم الأعجمية تعذّبه. هل صارت بغداد سوقا للأعاجم؟
لا أعتقد أن أبا جعفر المنصور سيحزن لأنهم هدموا تمثاله. لقد فعلوا ما يراه صحيحا. ما الذي يفعله المنصور وهو واحد من أهم بناة التاريخ في مدينة رثة التهمت الفئران زهورها فصرتَ ترى بدلا من الزهرة رأس فأر أينما التفت. سأكف عن الوصف لأن المقبرة لا توصف بعيني ميت. وهكذا يكون المنصور قد تذكر موته. تذكر أنه ميّت منذ قرون ولن يستفيض في الحديث عن موته. ففي تلك المدينة التي هي ليست مدينته لا أحد يتكلم لغته. هو الغريب الذي صار يرى في ليله حشودا من الغرباء هم العراقيون الذين لن يتعرّفوا عليه بعد أن أضاعوا الطريق إلى بغداد.
لن يخسر المنصور شيئا بعد أن خسر مدينته. وهو لم يخسرها لأن عدوا خارجيا انتصر عليه، بل لأنها أدركت بخبث أن ما يهزمه أن تكون بغداد مدينة أخرى. وهو ما حصل. لقد أنكرت بغداد نفسها قبل أن تتنكّر له. كانت تلك مدينة أخرى. مدينة تنعق على بيوتها الغربان. “سأسميك مقبرة من أجل أن لا أنوح عليك” لقد تتلمذ العراقيون على أيدي معلمي اللطم والبكاء والنواح فصار عليهم أن يضحكوا من بلاهتهم بين كل فصلي بكاء. تلك عادة لم يكن المنصور قد عرفها في زمنه. لذلك فقد صار يقول كلاما لا يُفهم. في حقيقة الأمر فقد كان المنصور هو الإنسان الأشد غربة في تلك المدينة التي لم يعد قادرا على أن يثق بأن اسمها كان بغداد. حتى الاسم يجده كثيرا عليها. كان المصريون يتبغددون حين تظهر عليهم علامات التحضر.
لا أحد سيبحث عن رأس أبي جعفر المنصور المصنوع من البرونز. لقد تخلصوا منه لأنه الشيء الوحيد الذي كان يذكرهم ببغداد العباسية. بغداد العراقيين. بغداد الكرخ والرصافة. لم تبق إرادة الهدم أي شيء من تلك الـ”بغداد”. لذلك كان وجوده شاذا. ولم يكن التخلص منه إلا فعل ضرورة. رأس المنصور كان يشير إلى مدينة أخرى هو بانيها. مدينة تقع تحت تلك المدينة التي تشهد أكبر عملية فساد في التاريخ البشري.
لقد ذهب الجمال الذي أخلص إليه إلى العدم فحُق به أن يلحق به.