القاهرة – أحمد جمال
.أثار الموقف المصري المتعدد لدعم القضية الفلسطينية واستخدامه لغة خشنة ضد التصعيد الإسرائيلي الأخير، جملة من التساؤلات حول دلالاته في وقت ظهرت فيه مصر أكثر انفتاحا على الأبعاد الإستراتيجية للدفاع عن أمنها القومي شمالا وجنوبا وغربا وشرقا، بما يشي بأن هناك رؤية جديدة أو راديكالية قديمة، ترتكز على زيادة النفوذ الخارجي، بما يتيح لها المناورة في بعض الملفات الإقليمية.
وحيّرت هذه الرؤية حلفاء النظام المصري في الداخل والخارج، لأن المسار الذي سار فيه للتعامل مع الأزمة بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية سوف تترتب عليه نتائج من المرجح أن تغير في التوازنات التي خبرها الصراع بين الجانبين خلال السنوات الماضية، بما يعيد تشكيل الدور المصري، ويجعله أكثر فاعلية.
وصبت حصيلة التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، برعاية مصرية، في توطيد العلاقات بين القاهرة وواشنطن وتل أبيب من ناحية، وبين القاهرة والسلطة الفلسطينية وحماس من ناحية ثانية، في مفارقة تؤكد أن التحركات المصرية اشتغلت كثيرا على اللحظة التي تضعها في منتصف الطريق ونقطة مركزية تلتقي عندها جميع الأطراف.
جمال أسعد: التحركات المصرية في غزة تضع المعارضة الداخلية في مأزق
وتوالت قوافل الدعم المصرية إلى قطاع غزة من جهات حكومية وشعبية عديدة مع استمرار فتح معبر رفح أمام المصابين لتلقي العلاج بالداخل، بالتزامن مع تكثيف الجهود الدبلوماسية مع قوى إقليمية ودولية مختلفة للوصول إلى تهدئة، وهو ما تحقق بعد 11 يوما من بدء الصراع في آخر طبعاته العسكرية.
ويقول مراقبون إن هناك توجها مغايرا لما ذهبت إليه القاهرة خلال عمليات التصعيد التي تكررت خلال العقد الماضي، حيث تعاملت في السابق بطريقة حملت تحفظات في مسألة الانفتاح على غزة وسعت لمنع التداعيات السلبية على الأوضاع الأمنية بسيناء، وطغت المخاوف المتصاعدة من توظيف بعض الأطراف للحرب بين حماس وإسرائيل، والتأثير على الأمن المصري.
وعكس الانفتاح الراهن جملة من التصورات التي تعيد توجهات الرئيس الراحل جمال عبدالناصر في التعاطي مع القضية الفلسطينية، والتي انطوت على مكونات شعبوية في التعامل مع التصعيد الأخير، والتخلي نسبيا عن الخطاب الدبلوماسي وتحفظاته المعروفة، وطغى في كل مرة اشتعلت فيها الأوضاع على الحدود الشرقية.
لكن دوائر مصرية رأت أن الحرارة التي ظهرت في توجهات القاهرة للتعاطي مع ما يدور في غزة تعبّر في جوهرها عن رغبة في سد الفراغ السياسي الداخلي، حيث نجحت الحكومة في بلورة مواقف متوازنة وضعتها في منتصف الأزمة.
القائمون على رسم معالم السياسة المصرية أدركوا بأن التراجع عن الانخراط بشكل قوي ومؤثر في الصراع الحالي كان سيخصم من رصيد القاهرة التاريخي تجاه مسؤوليتها القومية والأخلاقية في القضية الفلسطينية، وأن وجود فجوات إستراتيجية في الدائرة القريبة يحمل تهديدا قويا.
وخرجت القاهرة من كمونها وكأنها كانت تنتظر اللحظة المناسبة لأن تمد أذرعها الإقليمية على نحو كبير بعد أن حصنت الجبهة الداخلية وقوضت الكثير من التحديات التي واجهتها السنوات الماضية، ووجدت الفرصة مناسبة لتحييد أطراف تتنافس معها على النفوذ في المنطقة، مثل قطر وتركيا، وأسهم التقارب الحالي في الحد من الصدام مع أي منهما.
وفرض ارتفاع حجم الدمار في قطاع غزة على القاهرة تقديم دعم مادي سخي، حيث أعلن عن توفير نصف مليار دولار لإعادة الإعمار، لما يحويه الدمار من تأثيرات سلبية مباشرة على الأوضاع في سيناء، ومن الضروري قطع الطريق على أي محاولات تعيد شبح الاختراقات الأمنية السابقة.
وأوضح مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية عمرو الشوبكي لـ”العرب”، أن “السياسة الخارجية المصرية لديها ثوابت راسخة نحو الدفاع عن القضية الفلسطينية كجزء محوري في الأمن القومي، غير أن أساليب التعامل معها هي التي اختلفت”.
وأضاف أن القاهرة وجدت في حالة الغضب العارمة داخل إسرائيل والضفة الغربية وغزة مناخا ملائما لرفع صوتها ويحظى بقبول أطراف عديدة، لكن في الوقت ذاته فإنها لم تصل إلى مرحلة المواقف الصلبة من انتفاضة العام 2000 مثلا.
مع ذلك فإن التحولات السياسية التي مرت بها مصر وأفرزت تغييرا في نظام الحكم لم تؤثر على جوهر العلاقة مع إسرائيل، وبقيت اتفاقية كامب ديفيد بمعزل عن أي تغيير حدث بما فيها فترة وصول الإخوان للسلطة، وأن الدور المصري سيبقى في إطاره الداعم والباحث عن حلول تؤدي إلى التهدئة.
ويشير متابعون إلى أن اختلاف الأدوات والخطاب السياسي وطريقة الدعم المادي لن تؤثر على جوهر الموقف المصري من القضية الفلسطينية، وأن المجتمع الدولي يدرك ذلك جيدا لكنه يصيب القوى التي درجت على المتاجرة بالقضية بالصدمة.
يحيى الكيدواني: السياسة المصرية ترتكز على تهيئة الأجواء لإنهاء الانقسام
وذكر وكيل لجنة الدفاع والأمن القومي بالبرلمان المصري اللواء يحيى الكيدواني، أن “السياسة المصرية تسير في خطوط واضحة تجاه الشعب الفلسطيني وترتكز على تهيئة الأجواء لإنهاء الانقسام، والتفرغ لحل الصراع سياسيا عبر حل الدولتين، وأن استخدام لغة خشنة يعبر عن خطورة الوضع في غزة”.
وأوضح في تصريح لـ”العرب”، أن “القضية الفلسطينية تمثل أحد أبعاد الأمن القومي المصري وتتعامل معها أجهزة الدولة من دون النظر إلى الاستفادة المادية أو السياسية وما يهم القاهرة أن تكون هناك حالة من الاستقرار، وتجنب التوترات المستمرة التي يمكن أن تؤثر على الأوضاع في الداخل”.
وشكلت طريقة تفاعل النظام المصري مع التصعيد في قطاع غزة ارتباكا على المستوى الداخلي، لأن المصريين على مدار عقد من الزمان لم يعتادوا التعاطي بهذه الطريقة من الدعم متعدد الوجوه والأشكال، وبنت أحزاب الموالاة رؤيتها على التعامل مع قطاع غزة على أساس أن حركة حماس تسيطر عليه وتديره وفقا لحساباتها الضيقة.
ووجدت بعض الأحزاب والقوى السياسية الموالية للحكومة التي اعتادت توجيه الاتهامات والانتقادات لحماس نفسها مضطرة لأن تتحدث عن دعم المقاومة وتحشد باتجاه تسيير قوافل الدعم لغزة، ما ضرب مصداقيتها في مقتل وبدت كمنفذة لتعليمات دون أن تكون لديها مبررات لتفسيرالتغير الحاصل في الموقف المصري.
وكرست الكثير من الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني جهودها لدعم مبادرة إعادة إعمار غزة وانخرطت في تنظيم فعاليات سياسية داعمة للقضية الفلسطينية.
وتكرر الأمر مع المحسوبين على تنظيم الإخوان الذين لم يستوعبوا فكرة تقديم الدعم المصري لقطاع غزة وأطلقوا اتهامات جزافية بإهمال تنمية الداخل وتوجيه الدعم الذي يستحقه المواطنون في مصر إلى الخارج، وهذه الأطراف أيضا فقدت مصداقيتها بعد أن كان اتهامها للدولة المصرية يتعلق بحصار القطاع والتضييق عليه.
وأكد المحلل السياسي جمال أسعد أن “الممارسة السياسية لم يعد لها وجود مؤثر في الداخل وهناك أحزاب تؤيد الدولة بشكل مطلق من غير رؤية سياسية حقيقية تدافع عنها، وتلاشت الفروقات بين الليبراليين واليساريين، فالجميع يسير في ركاب الدولة”.
واستنتج في تصريح لـ”العرب”، أن “استخدام النظام المصري لجميع الأوراق التي يمتلكها في ملف قطاع غزة أو غيره من الملفات التي ينفتح عليها، يضع القوى السياسية الداخلية في مأزق لأنها ربطت توجهاتها بما يذهب إليه وتعاملت على أنها هيئات تعبر عن صوت النظام الحاكم ولا تمتلك حرية الحركة بمفردها لإقناع الشارع بتوجهاتها، ما ينطبق أيضا على الإخوان الذين يخضعون لتوجهات قادتهم”.
المصدر : العرب اللندنية