يُعد الإمام الفيلسوف أول من وضع منهجاً علمياً في تاريخ مذهب الشك
كتب : عماد الدين الجبوري
لا ينكر أن أحد الروافد المهمة إلى عصر النهضة الأوروبية في القرن الـ 16 الميلادي، جاء من الحضارة العربية الإسلامية، إذ كانت الجامعات تُدرس في مناهجها كتاب ابن سينا “القانون في الطب”، الذي يقع في 14 مجلداً، وتُرجمت مؤلفات عربية متنوعة إلى اللغة اللاتينية، ومنها كتاب “المنقذ من الضلال” للغزالي، الذي تتطابق فيه أهم أفكار ديكارت في منهج الشك، وبما أن الأخير لم يشر إلى اقتباساته من الغزالي، لذا يوجب الأمر التحري العلمي بغية معرفة الحقيقة.
قبل ذي بدء، نود أن نستهل بإيجاز منهج الشك عند الغزالي مقتصراً على كتاب “المنقذ من الضلال”، لما له من صلة مباشرة بما جاء في كتاب ديكارت “مقال في المنهج”، ثم نتناول باختصار ما كتبه الأخير في منهجه، وبعدها نطرح الإجابة عن سؤالنا الرئيس في خاتمة هذه الدراسة.
الغزالي (450-505 ه/1058-1111 م)
يُعد الإمام الفيلسوف أبو حامد محمد الغزالي أول من وضع منهجاً علمياً في تاريخ مذهب الشك، وبيّن هذا المنهج في بعض مؤلفاته “إحياء علوم الدين” و”ميزان العمل”، لكننا سنركز على “المنقذ من الضلال والموصل إلى ذي العزة والجلال”، وفق الغرض من هذه الدراسة، وقد وضعه في سنواته الأخيرة عند عودته إلى التدريس في نيسابور العام (499 ه/1106 م)، ويسرد فيه مراحل شكوكه، وسُبل الوصول إلى “العلم اليقيني”، وحقيقة “أنا أريد إذاً أنا موجود قادر”، وإن “الشك أول مراتب اليقين”. إنه كتاب صغير الحجم كبير المضمون، يعرض الحالات النفسية التي ذاق مرارتها الغزالي في بحثه المعرفي عن الحقيقة، التي كاد أن يضيع فيها بين الشك واليقين، حتى وجد ضالته في مسلك التصوف.
يشرح لنا الغزالي، كيف أنه منذ عنفوان شبابه حتى بلوغه سن الـ 50، وهو يقتحم لجة هذا البحر العميق بلا هوادة، إذ يتفحص عقيدة كل فرقة، ويستكشف أسرار مذهب كل طائفة، باطنياً وظاهرياً وفلسفياً وصوفياً، “وقد كان التعطش إلى إدراك حقائق الأمور دأبي وديدني من أول أمري وريعان عمري، غريزةً وفطرةً من الله وُضعتا في جِبِلّتي، لا باختياري وحيلتي، حتى انحلت عني رابطة التقليد، وانكسرت على العقائد الموروثة على قرب عهد سن الصبا”. ص 60 (المنقذ).
ورأى الغزالي أن صبيان النصارى لا يكون لهم نشوء إلا على التنصر، وصبيان اليهود لا نشوء لهم إلا على التهود، وصبيان المسلمين لا نشوء لهم إلا على الإسلام، وسمعت الحديث المروي عن رسول الله إذ قال، “كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه”، فتحرك باطني إلى طلب حقيقة الفطرة الأصلية، وحقيقة العقائد العارضة بتقليد الوالدين والأستاذين وأوائلها تلقينات وفي تمييز الحق منها عن الباطل اختلافات.
وهنا، اتجه الغزالي إلى طلب العلم بحقائق الأمور، فالعلم اليقيني هو الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافاً لا يبقى معه ريب ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم، ولا يتسع القلب لتقدير ذلك، بل الأمان من الخطأ ينبغي أن يكون مقارناً لليقين مقارنة لو تحدى بإظهار بطلانه، مثلاً من يقلب الحجر ذهباً والعصا ثعباناً لم يورث ذلك شكاً وإنكاراً، فإني إذا علمت أن الـ 10 أكثر من الثلاثة، فلو قال لي قائل، لا، بل الثلاثة أكثر من الـ 10، بدليل أنني أقلب هذه العصا ثعباناً وقلَبَها، وشاهدت ذلك منه، لم أشكّ بسببه في معرفتي، ولم يحصل لي منه إلا التعجب من كيفية قدرته علي! فأما الشك في ما علمته فلا.
ثم علمت أن كل ما لا أعلمه على هذا الوجه ولا أتيقنه بهذا النوع من اليقين، فهو علم لا ثقة به ولا أمان معه، وكل علم لا أمان معه فليس بعلم يقيني.
ثم فتشت عن علومي، فوجدت نفسي عاطلاً من علم موصوف بهذه الصفة إلا في الحسيات والضروريات، فقلت، الآن بعد حصول اليأس، لا مطمع في اقتباس المشكلات إلا من الجليات، وهي الحسيات والضروريات. فلا بدّ من إحكامها أولاً لأتيقن أن ثقتي بالمحسوسات، وأماني من الغلط في الضروريات، من جنس أماني الذي كان من قبل في التقليديات أم هو أمان محقَّق لا غدر فيه ولا غائلة له.
ويقبل الغزالي، بجد بليغ، يتأمل المحسوسات والضروريات، وينظر، هل يمكنه أن يشكك نفسه فيها؟ وانتهى به طول التشكك إلى أن “لم تسمح نفسي بتسليم الأمان في المحسوسات أيضاً”، فأخذت تتسع للشك فيها وتقول، من أين الثقة بالمحسوسات، وأقواها حاسة البصر، وهي تنظر إلى الظل فتراه واقفاً غير متحرك، وتحكم بنفي الحركة، ثم بالتجربة والمشاهدة، بعد ساعة، تعرف أنه متحرك، وأنه لم يتحرك دفعة واحدة بغتةً، بل على التدريج ذرة ذرة حتى أنه لم تكن له حالة وقوف. وتنظر إلى الكوكب فتراه صغيراً في مقدار دينار، ثم الأدلة الهندسية تدلّ إلى أنه أكبر من الأرض في المقدار. هذا وأمثاله من المحسوسات يحكم فيها حاكم الحس بأحكامه، ويكذبه حاكم العقل ويخونه تكذيباً لا سبيل إلى مدافعته. (ص 62 – 63).
وينتقل الغزالي إلى البحث في العقليات التي هي من الأوليات، فلعله لا ثقة إلا بها كقولنا، الـ 10 أكثر من الثلاثة، والنفي والإثبات لا يجتمعان في الشيء الواحد، والشيء الواحد لا يكون حادثاً وقديماً، موجوداً ومعدوماً، واجباً ومحالاً.
ويصطنع الغزالي حواراً تخيلياً مع المحسوسات، إذ تقول له “بمَ تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات؟ وقد كنت واثقاً بي فجاء حاكم العقل فكذبني، لولا حاكم العقل لكنت تستمر على تصديقي. فلعل وراء إدراك العقل حاكماً آخر، إذا تجلى، كذّبَ العقلَ في حكمه، كما تجلى حاكم العقل فكذّب الحس في حكمه. وعدم تجلي ذلك الإدراك لا يدل على استحالته”. (ص 63).
وهنا، توقفت النفس في جواب ذلك قليلاً، وأيدت إشكالها بالمنام وقالت، أما تراك تعتقد في النوم أموراً وتتخيل أحوالاً، وتعتقد لها ثباتاً واستقراراً ولا تشك في تلك الحالة فيها، ثم تستيقظ فتعلم أنه لم يكن لكل متخيلاتك ومعتقداتك أصل وطائل؟ فبمَ تأمن أن يكون كل ما تعتقده في يقظتك بحسّ أو عقل هو حقّ بالإضافة إلى حالتك التي أنت فيها. يمكن أن تطرأ عليك حالة تكون نسبتها إلى يقظتك كنسبة يقظتك إلى منامك، وتكون يقظتك نوماً بالإضافة إليها. فإذا وردت تلك الحالة تيقنتَ أن كل ما توهمت بعقلك خيالات لا حاصل لها. ولعلّ تلك الحالة ما يدعي الصوفية أنها حالتهم، إذ يزعمون أنهم يشاهدون في أحوالهم التي لهم إذا غاصوا في أنفسهم وغابوا عن حواسهم أحوالاً لا توافق هذه المعقولات. ولعلّ تلك الحالة هي الموت، إذ قال نبي الإسلام، “الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا”. فلعل الحياة الدنيا نوم بالإضافة إلى الآخرة، فإذا مات ظهرت له الأشياء على خلاف ما يشاهده الآن، ويقال له فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد.
“فلما خطرت لي هذه الخواطر وانقدحت في النفس، حاولت لذلك علاجاً فلم يتيسر، إذ لم يكن دفعه إلا بدليل، ولم يكن نصب دليل إلا من تركيب العلوم الأولية. فإذا لم تكن مُسلّمة لم يمكن ترتيب الدليل”. (ص 63).
أعضل هذا الداء، ودام حوالى شهرين، كان فيها الغزالي “على مذهب السفسطة بحكم الحال لا بحكم النطق والمقال”، ثم شفاه الله من ذلك المرض، وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال، ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقاً بها على أمن ويقين، ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر، ذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف، فمَن ظنّ أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة فقد ضيق رحمة الله الواسعة. فمن ذلك النور ينبغي أن يطلب الكشف، وذلك النور ينبجس من الجود الإلهي في بعض الأحايين، فيجب الترصد له، كما قال النبي عليه السلام، “إن لربكم في أيام دهركم نفحات، ألا فتعرضوا لها”.
بيد أن الوصول إلى هذا اليقين، وتحقيق النور الإلهي يتطلب من الباحث أن “يعمل كمال الجدّ في الطلب حتى ينتهي إلى طلب ما لا يُطلب. فإن كانت الأوليات ليست مطلوبة فإنها حاضرة، والحاضر إذا طُلب فُقد واختفى. ومَن طلب ما لا يُطلب، لا يُتهم بالتقصير في طلب ما يُطلب”. (ص 65).
صفوة القول، إن المنهج الشكي عند الغزالي يرتكز على محورين اثنين في تحقيق اليقين، أولهما، الحدس الصوفي الذي لا يحصل لكل إنسان، وثانيهما، الاكتساب بدليل الاستدلال والعلم، إنها حصيلة ناتجة من بحوث الغزالي في العلوم الشرعية والعقلية وتجاربه الشخصية التي مارسها لفترة طويلة في حياته.
نقلا” عن أندبندنت عربية