كتب : لبنى الحرباوي
في الرابعة من عمري، كنت أتعلم القرآن على يد المؤدب في مدينتي، كان الكتّاب فصلا دراسيا ملحقا بالمسجد.
لم أكن أعلم ماذا يحدث حينها، لقد أرسلت يوميا لساعتين صباحا ومثلهما مساء لحفظ القرآن. مازلت أحتفظ بصور كثيرة من تلك الفترة.
يمر المؤدب يوميا من أمام منزلنا وأكون في انتظاره ليصحبني معه إلى الكتّاب.. لا أنسى أبدا شدة يده على معصمي الغض وخطواته الحثيثة حتى يخيّل إليّ أني أطير لا أسير.
كان مؤدب المدينة الذي ندعوه “سيدي” رجلا مسنا لكنه “موهر” جدا. و”الوهرة” في تونس تعني الأناقة.
مازلت أذكر خطواته حين كنت أطير؛ جواربه البيضاء، حذاءه البني الملمع الذي تكاد ترى فيه وجهك كان على لون جبة الحرير والبرنس المتطاير خلفه. كل شيء كان غاية في المثالية، كان الرجل فائق “الريشة” و”الفيانة” و”الحطّة”.
كان “سيدي” أول المعلمين في حياتي الدراسية والحياتية بعد أبي وأمي، ذلك المعلم الذي لا ينسى. في الكتّاب اكتشفت في سن مبكرة جدا مشاعر الرهبة حين كنا نردد بأعلى أصواتنا آيات القرآن وراء سيدي، كنا صغارا نجلس إلى طاولات كبيرة حتى أن سيقاننا لا تلمس الأرض. لعبنا كثيرا في باحة المسجد وتطوعنا مرات عدة لتنظيم أحذية المصلين الفوضويين.
في العام الذي يليه التحقت بالروضة أين تعلمت حروفا وأعدادا وأشكالا وأسماء كل الألوان. هناك تصفحت قصصا كثيرة ملونة.
روضتي هذه في الأصل ليست سوى كنيسة تقع في قلب البلدة محاطة بأشجار السرو الطويلة.
حافظت الكنيسة على كل معالمها، احتوت رموزا دينية عرفت بعدها أنها صور لمريم العذراء وصليبا. كان الأمر عاديا؛ لم نكن نسأل ما هذا؟ وتعودنا على الأمر، كانت الكنيسة مكانا آمنا جدا لأطفال في الخامسة من العمر.
غير بعيد عن المسجد والكنيسة كان يوجد كنيس يهودي. سمعت قصته في طفولتي مرارا وتكرارا؛ قيل إن فتاة يهودية هي من أسسته، افترقت الفتاة عن أختيها اليهوديتين، فاستقرت الأولى في عنابة الجزائريّة، والثانية في جزيرة جربة جنوب شرق تونس، والثالثة التي أسست كنيس مدينتنا بقيت هنا في الكاف شمال غرب تونس.
مازلت أتذكر أسف جدي أمام الكنيس القديم على أصدقائه الذين كانوا يأتون لأداء صلواتهم فيه في عيد كيبور. قال جدي إنهم هاجروا كلهم.
لم أعرف يهودا ولا مسيحيين في مدينتي الهادئة جدا الواقعة على أعلى سفح الجبل لكني رأيت آثارهم التي رافقت قصص طفولتي. أحببتهم دون أن أعرفهم، كانوا يوما ما جزءا من تاريخنا.. وسيظلون.
نقلا” عن العرب