كريتر نت – العرب – آمنة جبران
دشّن مجلس نواب الشعب التونسي مرحلة جديدة من العنف السياسي بعد أن تحولت قبة باردو (مقر البرلمان) إلى مسرح لتبادل اللكمات والشتائم في مشهد غير مسبوق. ويؤشر تصاعد الخطاب السياسي العنيف على تفاقم الأزمات على جميع الأصعدة، منذرا باتجاه البلاد نحو مسار مجهول.
بلغ التوتر داخل البرلمان التونسي ذروته مع انتقال العنف بين النواب من عنف لفظي إلى عنف مادي في أعقاب جلسة برلمانية صاخبة، ما يفاقم أزمات البلاد حسب المتابعين، في ظل انشغال الأحزاب بصراعاتها وخصوماتها، في وقت تشهد فيه المحافظات الداخلية حالة من الغليان تنديدا بتردي الأوضاع المعيشية.
وشهد اجتماع لجنة المرأة بالبرلمان التونسي، الاثنين، تبادلا للعنف بين ممثلي حزبي التيار الديمقراطي وائتلاف الكرامة، وفق ما نقلته وسائل إعلام محلية. وتعرض النائب عن الكتلة الديمقراطية أنور بالشاهد، إلى الاعتداء اللفظي والجسدي من قبل نواب ائتلاف الكرامة، ما سبب له جرحا في رأسه.
وبيّن بالشاهد في تصريحات صحافية أن خلافا نشب داخل لجنة شؤون المرأة، بخصوص التداول في تصريحات النائب من ائتلاف الكرامة، محمد العفاس التي اعتبر أنّها تهين المرأة التونسية ثم تطور ونجم عنه اعتداء بالعنف عليه. واعتبر أن “ما يحدث في البرلمان بمثابة إرهاب”.
كما أظهرت مقاطع فيديو مسربة من البرلمان، إغماء النائب من الكتلة الديمقراطية، سامية عبو، بعد تعرضها إلى العنف من قبل الحزب نفسه. وطالبت كتل برلمانية رئيس البرلمان برفع الحصانة البرلمانية عن كتلة ائتلاف الكرامة وتقديم قضية ضدها.
وأعلن رئيس البرلمان راشد الغنوشي عن فتح تحقيق في الحادثة لتحديد المسؤوليات والسعي إلى اتخاذ الإجراءات اللازمة. لكنّ مراقبين يشككون في قدرة الغنوشي على احتواء الخلافات البرلمانية، خاصة وأن حزب النهضة المشارك في الحكم والذي يترأسه يشكلا جزءا من الأزمة باعتبار تحالفه القوي مع حزب ائتلاف الكرامة.
وأشار عربي الجلاصي، القيادي في حزب التيار الديمقراطي في حديثه لـ”العرب”، إلى أن “البرلمان اليوم دخل مرحلة جديدة عنوانها العنف المادي بعد الاعتداء الذي تعرض إليه نواب التيار الديمقراطي من قبل نواب ائتلاف الكرامة”. وأكد أن “الحزب يدين العنف المادي في انتظار إدانته من طرف القضاء”.
ورأى الجلاصي أن ما نجح فيه ائتلاف الكرامة هو تشتيت التركيز على القضايا التي تهمّ التونسيين، وهي قضية الصحة وحوكمة الدولة إثر حادثة وفاة طبيب شاب، وذلك بالعودة إلى النقاش حول مسائل هوية لا تعني غيرهم وباللجوء إلى العنف.
وعلق بالقول “لا تستطيع مؤسسات الدولة أن تعمل اليوم وهي مخترقة من طرف كتلة تمارس العنف بوضوح”. وتابع “علينا الحسم ضد كل من يمارس العنف سياسيا وقضائيا”.
وأصبحت جلسات البرلمان في تونس، خاصة جلسات مساءلة الوزراء وأعضاء الحكومة، تسجل نسب متابعة عالية، لا بسبب ما تطرحه من قضايا مهمة تمس المواطن، بل بسبب ما يتخللها من عراك وشتائم بلغت مؤخرا مستوى متدنيا من الخطاب بين السياسيين.
وعلى الرغم من مبادرات أطلقت سابقا تحت شعار “أخلقة العمل السياسي”، إلا أنها لم تنجح في لجم الخلافات وتخفيف مشاهد التشنّج بين الكتل البرلمانية مع تواصل العراك وتبادل الاتهامات والتخوين والتكفير. وسبق أن تعرضت زعيمة الحزب الدستوري الحر عبير موسي إلى الاتهام بالتكفير في مشهد يعكس حجم الانقسام وتغول خطاب الكراهية داخل البرلمان التونسي.
ويندد متابعون بالمشهد السياسي المشتت في البلد، وعدم تحلي الأحزاب بالمسؤولية بصرفها النظر عن مشاغل الشارع الحقيقية والتركيز على الصراع الحزبي وتصفية الحسابات.
ووصف السياسي التونسي عبدالحميد الجلاصي “المشهد المؤسساتي بالعبثي”.
وتابع الجلاصي في تصريح لـ”العرب”، “إما أنه لا يفهم دقة الأوضاع وحجم المخاطر، وإما أنه لا يدرك حجم المسؤولية المستوجبة في العلاقات والخطاب والسياسات”.
وتتعرض الأحزاب التونسية إلى انتقادات واسعة بسبب سوء إدارتها للأزمة الاقتصادية والاجتماعية الخانقة. ويتهمها الشارع بإطلاق الخطاب الشعوبي بسبب الهاجس الانتخابي، فيما فشلت في إيجاد حلول حقيقية للنهوض بحياة المواطن.
واعتبر الجلاصي أن “هذه المنظومة برمتها التي أفرزتها الانتخابات الأخيرة كانت أمامها فرصة أخيرة للتدارك، ولكنها أبدعت خلال سنة كاملة في إهدار هذه الفرصة”.
وأضاف “الآن الغضب المتصاعد من الجهات يترافق بعنتريات برلمانية. ونحن بصدد دفع ثمن سوء إدارة مرحلة 2014-2019”.
وبرأيه فإن “التشنج الذي يواجه بالتشنج لا يثمر، وأن السياسة باعتبارها بحثا عن المشتركات وتكريس النسبية والتعايش تحتضر في تونس”.
وعلى الرغم من سوداوية المشهد السياسي مع تندي خطير للخطاب السياسي، يعتقد الجلاصي أن “هناك فرصة للتدارك عبر العقلاء ومسؤولية رئيس الجمهورية كبيرة في التجميع”، مستنتجا “غير هذا فإن البلاد تنتظرها أوضاع صعبة تغيب فيها الآفاق”.
ويلفت متابعون إلى أن إثارة قضايا الدين والهوية من قبل الأحزاب المتهمة بفشل أدائها، مجرد محاولة لصرف الأنظار عما تعيشه تونس من ارتباك وتخبط تفاقم مع توسع الاحتجاجات.
وعمت في تونس حالة استنكار واسعة على خلفية تصريحات نائب ائتلاف الكرامة، العفاس، التي أهان فيها المرأة التونسية كما هاجم مدنيّة الدولة، وسط دعوات إلى رفع الحصانة عنه ومطالبته بالاعتذار بعد تقديمه خطابا متطرفا يحرّض من خلاله على الكراهية والعنف ضد النساء.
ويعرف ائتلاف الكرامة، الذي يرأسه سيف الدين مخلوف، بمعاداته للحرية وأوجهها المختلفة، ويُثير الخطاب الذي يتبناه جدلا واسعا، خاصة وأنه يقدّم مبادرات تشريعية متوالية تعمّق حالة الانقسام التي يعرفها المشهد العام في تونس.
وقالت شيماء عيسى، الباحثة والمحللة السياسية في حديثها لـ”العرب”، إن “عودة الاستقطاب الثنائي في القضايا المجتمعية والدينية وقضايا المرأة من شأنه أن يؤجج الاحتقان السياسي، كما من شأنه أن يكون كارت في يد السياسيين الانتهازيين”.
ومع تصاعد العنف داخل أروقة برلمان مشتت، تعتقد عيسى أن “ما يحدث اليوم هو بداية نهاية الدولة”، كما أن ذلك ستكون له انعكاسات خطيرة على السلم والأمن الاجتماعي، حسب تعبيرها.
وتشرح عيسى بالقول “العنف في البرلمان سيترجم إلى عنف في الشارع وسينعكس على تصرفات الأنصار، وذلك من شأنه أن يهدد السلم الأهلية والأمن الاجتماعي”.
وترى عيسى أنه على جميع النواب إعادة تقييم أدائهم وأن يقيموا صدى ما يحدث في البرلمان على المجتمع، كما ترى أن “إعادة تنقيح القانون الانتخابي الذي أفرز هذه الطبقة الحاكمة يعد أولوية من أوليات هذه المرحلة”.